لفظ عدمية ’Nihilism‘ مشتق أساسًا من الكلمة اللاتينية ’Nihil‘ والتي تعني لاشيء. يستخدم اللفظ في عدة مواضع في الفلسفة. بمعنى: لا يوجد شيء على الإطلاق.. أو لا يوجد مباديء أخلاقية على الإطلاق.. وكل ما يُساق من لفظ ’’اللاشيء‘‘ فهو عدمي. إلا أن الاستخدام الأكثر شيوعًا، والمستخدم على نطاق واسع اليوم، هو أن لا شيء نستخدمه، نبدعه أو نحبه له أي معنى أو قيمة على الإطلاق.
العدمية بشكل عام ليست مجرد تعريف لموقف فلسفي معين، بل تعبير عن ميل عام، وعن حالة من الأسى: هل هذا كل شيء؟ هل الإنسانية ليست سوى عدد من السنين لا قيمة لها على كوكب لا يميزه أي شيء عن غيره في كون لا يُلقي لنا بالًا؟ هل لأي شيء قيمة؟ بالنسبة للعديد من الناس هذه الأسئلة ليست مجرد طرح فلسفي بل وجهة نظر حداثية للإنسانية كجزء ضئيل للغاية من الكون ككل.. كما يدعي العلم.
في البداية ظهرت العدمية في المعاجم الفلسفية باعتبارها ’’اتهام‘‘. لم تبدأ كغيرها من المناهج الفلسفية بأن يقول أحد الفلاسفة ’’أنا عدمي‘‘ بل ’’أنت عدمي‘‘ كاتهام. وشعر البعض أنه لو صح ما قاله البعض الآخر من الفلاسفة حول العدمية.. فسيكون كل شيء بلا معنى.
في هذا الصدد، يقول فريدريك جاكوبي أن الفلسفة الكنطية- وخاصة كما قدمها الفيلسوف يوهان فيشته- هي حجر الأساس الذي قامت عليه العدمية. هذا لأن فلسفة فيشته لم تقم على أساس ديني أو إيماني بل قدر محدود من العقلانية. وركز فيشته على "الذات" كبداية للفلسفة.
وضع جاكوبي يديه بذلك على المعضلة الأساسية بخصوص العدمية. تَفترض معظم الأديان، والعديد من الفلسفات، والكثير من المعتقدات الدينية العامة بين الناس أن قيمة أي شيء مصدرها لابد وأن يكون ماورائي متجاوز للأفراد، متجاوز الإنسانية، متجاوز العالم المادي ومتجاوز العالم الطبيعي. إن لم يُكن إله، فربما عالم آخر متعالٍ، كما يراه أفلاطون. فالعدمية كاتهام تُعتبر تحدّي: إن لم تؤمن بإله، أو بأي عالم ماورائي ومتجاوز، فما قيمة أي شيء؟
Art work credit: Patricia March, The subtle in the invisible |
بظهور نيتشه وجدنا أنفسنا أمام فيلسوف غارق في العدمية. يقول نيتشه: مات الله، وأصبح كل شيءٍ مباح، ويا أهلا بذلك.
ومع ذلك، أعتقد أن الأمر يشوبه بعض الغموض. فلنأخذ ما قاله جاكوبي كحجة، وأن كل قيمة أو معنى لابد أن يكون ورائها عالم متجاوز. ولكن، إن لم يكن لدينا إله، ولا وحي، فلن يكون لدينا هذا المصدر الماورائي المتجاوز.
ختامًا، من وجهة نظر إلحادية (سواء اعترفت بذلك أم لا) ليس هناك معنى. وأعتقد كذلك أن نيتشه لم يقبل في النهاية بفكرة أن لا معنى لأي شيء. بل قبل بعدم وجود هذا النوع من المعنى الذي يتحدث عنه جاكوبي. وليس عدم وجود معنى على الإطلاق.
وأعتقد أن نيتشه يرجح الفرضية الأولى: بعض المعاني والقيم تحتاج إلى مصدر ماورائي متجاوز. ولكن الفرضية الثانية تقر بأنه لا يوجد مصدر ماورائي متجاوز- سنجد أنفسنا إذن أمام خاتمة مُعدلة بشأن نيتشه: لا يوجد مصدر ماورائي متجاوز كسند لبعض المعاني، ولكن الحياة نفسها كانت ذات مغزى. كيف؟
من ناحية كان نيتشه عدمي لأنه لا يؤمن بأي مصدر متجاوز وراء القناعات والتصرفات الإنسانية. من ناحية أخرى، لم يكن عدميًا، كان يرى أن قناعات وتصرفات الناس بمثابة مولد ذاتي للمعنى.
_____________________________________________________________________________________________________
____________________________________________________________________________________________________
جون بيري هو أستاذ الفلسفة في جامعة كاليفورنيا، وأستاذ فلسفة فخري في جامعة ستانفورد، وعضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.
تعليقات
إرسال تعليق