التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كيف أثارت لوحة واحدة التأويلات الأكثر جدلا في تاريخ الفن؟

هَذه اللَوحة يقول عنها لوكا جيوردانو "إنهَا الأسَاس اللَاهُوتِي لفنِ الرَسمِ"، ويقول عنها توماس لورنس "إنها الفلسَّفة الشَرعية للفنِ". اللوحةُ أثارتْ التأويلَات الأكثر تنوعًا فِي تاريخِ الرسمِ، حتى أن ميشيل فوكو نفسه استهلَ بها كتَابه "الكلمَات والأشيَاء" قائلًا: إنّه محض تبادل: إنّنا ننظر إلى لوحة وفيها رسّام يتأمّلنا بدوره. لا شَيء أكثرُ من وجهٍ لوجهٍ، من عيون تفاجئ بعضها، من نظراتِ مُستقِيمة، تترَاكب حينَ تتقَاطع. ومع ذلك فإنّ هذا الخيطِ الرفيع من الرؤيةِ يحتَوي بالمقابلِ شبكة معقّدة من الشكُوك، والمبَادلات والتهرّب. فالرسّام لا يتّجه بعينيه نحونا إلاّ بمقدَار ما نتواجد في مكانِ موضوعه الرئيسي، ونحن المشَاهدين، لسنا إلاّ مجرّد زيادة. وإذ نستقبلُ هذه النظرة، فإنّها تطردنا، ليحلّ محلّنا ما كان مُنذ بدء الأزمنة يتواجد هناك قبلنا: النموذج نفسه.

لوحة وصيفات الشرف (1656) لديجو فيلاسكيز (1599 – 1660) رسَام إسبَاني في فترةِ حكم الملك فيليب الرابع، وواحد من أهمِ الرسَامين في تاريخ الفن. لوحة الوصيفات التي رسمها فيلاسكيز أثارتْ جدل واسّع بسببِ محتواها شديد الغمُوض. المفروض، أن فيلاسكيز يرسم الملكَ فيليب وزوجتَه الملكة، لكن مهلًا هذا لا يظهر بقوةِ في اللوحَة، الحقيقة إن الملكَ وزوجته يظهرَان في بُقعة بَاهتة بوجوة غير مُحددة الملَامِح في مُنتصف لوحَة الوصيفات فيمَا يبدو إنها مرآة. الأكثرُ مِنْ ذلِك، أن فيلاسكيز رسم لوحَة الوصيفَات عنه هو، عن نفسِه وهو يرسم المَلك والملِكة. على يسار الرائي جدَارية من القماشِ لا يظهر منهَا شَّيء، إنها اللوحة التي يعمل عليهَا فيلاسكيز وعلى اليمين الأميرة الصغيرة وبعض الوصيفات. وفي المنتصف مرآة تعكِس مَا هو من المُفترض محتوى الجدارية التي يرسمها فيلاسكيز.

اللوحَة كُلها تنظُر إلى مشهدِ هي نفسها بدورهَا مشهد بالنسبةِ له، في هذه اللوحة يتبادل النَاظر والمنظُور النظر بلا توقُف. فيلاسكيز يُحدق فينَا جميعًا بمجرد دخولنَا حَيز اللوحَة. أنحنُ رائُون أم مرئيُون؟ لا ندري. فيلاسكيز يتراجَع للوراء قليلًا يُحدق في النموذجِ نفسه, نحنُ بدورنا لا نرى النموذج الذي يراه، لكن لو اتبعتَ خط النظر ستجد أن فيلاسكيز يُحدق فينَا نحنٌ. فيلاسكيز يرسمنَا نحن. والمرآة التي تتوسَط الحائط عاكسّة صُورة الملك والملكة لا تُعبر عن نموذجِ فيلاسكيز بقدر ما تُعبر عن غيَابه, الغيابُ المُتمثل في صورةِ غير واضحَة معكوسة في مرآة. ستجد نفسك أمام اللوحة عَاجز تمامًا عنْ إجابة سؤال بسيط، مَن يرسم ماذا؟

لذلك فإن مَا يُحاول الرسم أن يُقدمه هو ما فشَّلت اللُغة في تقديمِه، علَاقة أكثر رحَابة وشفَافية بينَ الإنسَّان والأشيَاء. أو كما يقول فوكو: "علَاقة اللُغة بالرسم علاقة لا مُتناهية، لأن الكَلمة غير كامِلة وتقع إزَاء المرئِي في عجزِ تجهد عبثًا لتجَاوزه، لأنهما لا يُمكن أن يُختزل أحدهما الآخر، فعبثًا نقول ما نرَاه، لأن ما نرَاه لا يسكُن أبدًا فيما نقول، وعبثًا عملنا على أن نجعل الآخرينَ بالصورِ والإستعاراتِ والمقارناتِ يرون ما نقوله الآن". لذلك أمام هذه اللُغة الرمادية، الموسوسة والمُكررة دائما أضاء الرسم، كحلٍ لعلاقة رمادية بين الكلماتِ والأشياءِ، علاقة يعملُ الرسم على جعلهَا أكثرَ شفَافية.

Las Meninas (1656) by Diego Velázquez
________________________________________________________________________
هذه تدوينة شخصية وليست مترجمة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تشارلز بوكوفسكي: الحُبّ والأسَى

‘‘إنّ كانت لديك القُدرة على الحُب حقًا؛ حبّ نفسك أولًا.’’ “If you have the ability to love, love yourself first.” ‘‘سنموتُ جميعًا، كُلنا جميعًا، يا له مِن سيرك! وهذا السبب وحده كافيٌ لأنّ نُحبّ بعضنا البعض؛ لكنَّ هذا لم يحدث. لقد دمرتنا وسطَّحتنا التفاهات، والتهمنا الهراء.’’ “We're all going to die, all of us, what a circus! That alone should make us love each other but it doesn't. We are terrorized and flattened by trivialities, we are eaten up by nothing.” ‘‘أنا لا أكره الناس، أنا فقط أشعر أفضل عندما لا يكونوا حولي.’’ “I don't hate people... I just feel better when they're not around.” ‘‘يجب أنّ تموت عدة مرّات قبل أن أنّ تحيا حقًا.’’ “ You have to die a few times before you can really live .” ‘‘المُهم فعلًا هو كيف ستمشي على الجمر كما يجب.’’ “what matters most is how well you walk through the fire.” ’’حُبٌّ كهذا كان كالمرضِ العضال، مرضٌ لا تشفى مِنه كُليًّا أبدًا.’’ “A love like that was a serious illness, an illness from which you never entirely ...

السريالية: كيف وصل العالم إلى هذا الحدّ مِن الجنون؟

"الحقيقة أنَّ الفنّ كان انعكاسا لجنونٍ أكبر عمَّ العالم بأسرِه في فترة كان ينفض فيها العالم عن نفسِه غبار حرب كونيّة أودت بحياة ملايينِ الأبرياء." ظهرت السريالية في باريس في أوائل القرن العشرين، تقريبًا 1920، على يد مجموعة من الكُتَّاب والفنانين الذين ركزوا على اللاوعي كمصدر لأعمالهم الفنيّة والأدبية. تُعتبر السريالية من أكثر الحركات الفنية تأثيرًا في القرن العشرين، وقد انبثقت بشكل ما من حركة "الدادا The Dada ،" الدادا نفسها كحركة فنية انطلقت إبان الحرب العالمية الأولى مُعلنة عن ازدراءها للحرب وللحياة والثقافة الأوربية بشكل والتي اعتبرتها بلا معنى؛ قدم رسامو الداد أعمال فنية تحت شعار "ضد الفن أو بلا فن،" كتعبير منهم على حجم الهراء الذي غرقت فيه أوربا في تلك الفترة. مِن هنا بدأت الحركات والأعمال الفنيّة اللاحقة للدادا تأخذ مواقف عنيفة ضد الحروب والقتال وتصاعد أزمة المعنى. سريعًا ما بهتت الداد وتوارت عن الأنظار، ربما يرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى أن الداد كانت مُحاكاه لمدى القبح الذي وصل له العالم، وقد رفض العالم أن يصدق أنه على هذا القدر مِن القبح...