"أين
الإله؟ أنا سأقول لكم ذلك! لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن كلنا
قَتَلَتُه ! لكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟ من أعطانا
الإسفنجة لمحو كل هذا الأفق؟ ماذا فعلنا بفصلنا الأرض عن شمسها؟ إلى أين تقودها
حركاتها، حركاتنا؟ أبعيدًا عن كل الشموس؟ ألم نندفع في منحدر لا قرار له؟ (…) أما
يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألسنا نتيه صوب عدم لانهائي؟"
بتلك الكلمات أعلن نيتشه "موت الإله" في كتابه "العلم الجذل / الشاذ،" إله الحداثة، مُمهدًا الطريق لظهور ما بعد الحداثة. هذا هو عالم نيتشه؛ عالم ما بعد الحداثة بلا ثوابت أو مركزية أو حدود، لا شيء يتجاوز المادي المباشر، لا يُمكن لأي منظومة أخلاقيّة أن تحكم، فالإنسان كائن غرائزي مثله مثل بقية الكائنات، وكل الكائنات جزء من الطبيعة المادية التي تخضع كل الكائنات فيها "لإرادة القوة". فإن كان كارل ماركس يرى أن الصراعات الطبقية هي ما تؤطر صيرورة التاريخ؛ وإن كان سيجموند فرويد يرى أن صراع الرغبات في اللاوعي هي المحرك للتاريخ؛ فإن نيتشه قد رأى "إرادة القوة" هي محرك التاريخ. ربُما كان سبب هذه القطيعة الكلية مع كل الثوابت هو أن نيتشه نفسه كان يرى أن الحداثة بمفهومها الغربي ما هي إلا ميتافزيقيا مُقنعة، وهم، يُأله فيه الإنسان بدلًا من الإله، وتصبح فيها الحضارة الغربية هي المطلق. ربما أيضًا كان هذا أكثر ما يُميز ما بعد الحداثة أنها نشأت بوصفها معاديًا للحداثة.. ففيما اهتمت الحداثة بتقديم السرديات الكبرى على أسس تنويريّة وعقلانيّة، شككت ما بعد الحداثة في كل السرديات الكُبرى واعتبرت أن كل ما تقف عليه البشريّة مِن معارف كليّة ليس سوى أطروحات متأثرة بالسياق التاريخي والمحلي المعاصر لها، فالحقائق مُختلفة باختلاف العصور والمجتمعات أو بالأحرى وكما يقول نيتشه: "لا يوجد حقائق يوجد فقط تأويلات،" فالتمسك بأي نمط أخلاقي أوسردية ميتافزيقية هو محض اختيارات وتفضيلات شخصية. وعليه، يقذف بنا هدم السرديات الكبرى والتخلي عن الأُسسية الأخلاقية والموضوعية إلى بحار النسبية والتعددية والتفكيك والعدمية.
يقول المفكر الألماني راؤول ايشلمان في كتابه "بعد ما بعد الحداثة مقالات في الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن" ترجمة أماني أبو رحمة: "تعرض ما بعد الحداثة فخاً محكماً استثنائياً لا مفر منه في ما يتعلق بالمعنى. وأي محاولة يبذلها المرء في رحلة البحث عن المعنى تذهب أدراج الرياح لأن كل علامة تعد بنوع من المعرفة الأصيلة تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر. وفي محاولته تحديد نفسه من خلال المعنى، فإن الشخص في ما بعد الحداثة يغرق في طوفان المرجعيات المتقاطعة التي تتزايد في الاتساع أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فإنه حتى لو تشبث بالشكل فلن تكون النتيجة أفضل بحال من الأحوال، لأن ما بعد الحداثة لا ترى في الشكل ترياقا للمعنى، بل إنه أثر يقودنا إلى الوراء نحو سياقات موجودة بالفعل ومثقلة سيميائياً. كما أن أي محاولة لتثبيت المعنى تتبعثر على أشكال متداخلة وكل توظيف لشكل يرتبط بمعان موجودة بالفعل وكل مقاربة للأصالة تعود بنا إلى علامة مُغايرة. تنتهي رحلة الشخص الباحث عن المعنى من حيث بدأت: فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع إلى ما لا نهاية." انتهى كلامه.
ربما يبرز الفخ الاستثنائي المحكم الذي يتحدث عنه راؤول ايشلمان أكثر ما يبرز في مشروع دريدا التفكيكي الذي اعتمد التشكيك الجذري في دلالات النصوص مقوّضًا تمامًا فكرة استقرار المعنى أو الوقوف على أي علامة كمعرفة أصلية يُمكِن التأسيس عليها. فإذا ألقينا نظرة دقيقة على تفكيكيّة دريدا نرى أنَّ أي بناء أدبيّ، سياسيّ، فلسفيّ، ...إلخ، يُسن ويُحافظ عليه بأفعالٍ إقصائيَّة. بمعنى: أنَّنا أثناء تكوين وخلق بناء ما، نُنحي بشكل إقصائي ما لا يتفق مع هذا البناء. مِن ثمَّا، تصبح البُنى الجديدة إقصائية قمعيّة، كما أنَّ القمع والزجر يُصبحان أحد النتائج والسمات الأساسيّة المُترتبة عليها. يعود دريدا ليؤكد على أنَّ ما تم طمسِه وقمعِه يعود مرة أخرى لزعزعة وقلقلة البناء، مهما بدى البناء في مَأمن وثبات.
بتلك الكلمات أعلن نيتشه "موت الإله" في كتابه "العلم الجذل / الشاذ،" إله الحداثة، مُمهدًا الطريق لظهور ما بعد الحداثة. هذا هو عالم نيتشه؛ عالم ما بعد الحداثة بلا ثوابت أو مركزية أو حدود، لا شيء يتجاوز المادي المباشر، لا يُمكن لأي منظومة أخلاقيّة أن تحكم، فالإنسان كائن غرائزي مثله مثل بقية الكائنات، وكل الكائنات جزء من الطبيعة المادية التي تخضع كل الكائنات فيها "لإرادة القوة". فإن كان كارل ماركس يرى أن الصراعات الطبقية هي ما تؤطر صيرورة التاريخ؛ وإن كان سيجموند فرويد يرى أن صراع الرغبات في اللاوعي هي المحرك للتاريخ؛ فإن نيتشه قد رأى "إرادة القوة" هي محرك التاريخ. ربُما كان سبب هذه القطيعة الكلية مع كل الثوابت هو أن نيتشه نفسه كان يرى أن الحداثة بمفهومها الغربي ما هي إلا ميتافزيقيا مُقنعة، وهم، يُأله فيه الإنسان بدلًا من الإله، وتصبح فيها الحضارة الغربية هي المطلق. ربما أيضًا كان هذا أكثر ما يُميز ما بعد الحداثة أنها نشأت بوصفها معاديًا للحداثة.. ففيما اهتمت الحداثة بتقديم السرديات الكبرى على أسس تنويريّة وعقلانيّة، شككت ما بعد الحداثة في كل السرديات الكُبرى واعتبرت أن كل ما تقف عليه البشريّة مِن معارف كليّة ليس سوى أطروحات متأثرة بالسياق التاريخي والمحلي المعاصر لها، فالحقائق مُختلفة باختلاف العصور والمجتمعات أو بالأحرى وكما يقول نيتشه: "لا يوجد حقائق يوجد فقط تأويلات،" فالتمسك بأي نمط أخلاقي أوسردية ميتافزيقية هو محض اختيارات وتفضيلات شخصية. وعليه، يقذف بنا هدم السرديات الكبرى والتخلي عن الأُسسية الأخلاقية والموضوعية إلى بحار النسبية والتعددية والتفكيك والعدمية.
يقول المفكر الألماني راؤول ايشلمان في كتابه "بعد ما بعد الحداثة مقالات في الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن" ترجمة أماني أبو رحمة: "تعرض ما بعد الحداثة فخاً محكماً استثنائياً لا مفر منه في ما يتعلق بالمعنى. وأي محاولة يبذلها المرء في رحلة البحث عن المعنى تذهب أدراج الرياح لأن كل علامة تعد بنوع من المعرفة الأصيلة تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر. وفي محاولته تحديد نفسه من خلال المعنى، فإن الشخص في ما بعد الحداثة يغرق في طوفان المرجعيات المتقاطعة التي تتزايد في الاتساع أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فإنه حتى لو تشبث بالشكل فلن تكون النتيجة أفضل بحال من الأحوال، لأن ما بعد الحداثة لا ترى في الشكل ترياقا للمعنى، بل إنه أثر يقودنا إلى الوراء نحو سياقات موجودة بالفعل ومثقلة سيميائياً. كما أن أي محاولة لتثبيت المعنى تتبعثر على أشكال متداخلة وكل توظيف لشكل يرتبط بمعان موجودة بالفعل وكل مقاربة للأصالة تعود بنا إلى علامة مُغايرة. تنتهي رحلة الشخص الباحث عن المعنى من حيث بدأت: فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع إلى ما لا نهاية." انتهى كلامه.
ربما يبرز الفخ الاستثنائي المحكم الذي يتحدث عنه راؤول ايشلمان أكثر ما يبرز في مشروع دريدا التفكيكي الذي اعتمد التشكيك الجذري في دلالات النصوص مقوّضًا تمامًا فكرة استقرار المعنى أو الوقوف على أي علامة كمعرفة أصلية يُمكِن التأسيس عليها. فإذا ألقينا نظرة دقيقة على تفكيكيّة دريدا نرى أنَّ أي بناء أدبيّ، سياسيّ، فلسفيّ، ...إلخ، يُسن ويُحافظ عليه بأفعالٍ إقصائيَّة. بمعنى: أنَّنا أثناء تكوين وخلق بناء ما، نُنحي بشكل إقصائي ما لا يتفق مع هذا البناء. مِن ثمَّا، تصبح البُنى الجديدة إقصائية قمعيّة، كما أنَّ القمع والزجر يُصبحان أحد النتائج والسمات الأساسيّة المُترتبة عليها. يعود دريدا ليؤكد على أنَّ ما تم طمسِه وقمعِه يعود مرة أخرى لزعزعة وقلقلة البناء، مهما بدى البناء في مَأمن وثبات.
هذه هي فلسفة ما بعد الحداثة المُخادعة
المراوغة حيث يصعب الاستقرار على معنى، وهذا هو عالم ما بعد الحداثة المُتشظي والذي
تظهر فيه هشاشتنا أمام نسبية كل شيء في هيئة وعي ساخر بالنفس ومحاكاة ساخرة للعالم
والواقع مِن حولنا. عالم يرى فيه جاك دريدا أن الحقيقة شظايا مُبعثرة نازعًا
القداسة عن مركزية العقل. عالم يرى فيه ميشيل فوكو أن الفلسفة ما هي إلا محاولة
لتشخيص الواقع والتفكير في اللامفكر فيه لاكتشافه بشكل دقيق لفهم التكوين الحقيقي
للظواهر بعينها وأسباب سيطرة مواضيع بعينها في فترات تاريخية معينة، لا يعدنا فوكو
هنا بأي شيء عن الحقيقة، بل فقط "جينيالوجيا" أو "علم أنساب"
الظواهر، محاولة فهم ما يحدث لا الوقوف على حقيقته. عالم يُسقِط فيه جان ليوتار كل
السرديات الكبرى التي قامت على أسس العقلانية والتنوير. عالم ما بعد الحداثة الذي
ما أنفك أن يؤكد فيه جان بودريار على ’موت الواقع‘ و’اغتيال المعنى‘ و’تفتت
المصادر‘ المنتجة له. أليس هذا هو عالم ما بعد الحداثة؟ عالم مُفكك ونسبي ومبعثر
لشظايا يصعد فيه اللامعنى وتتفتت قيه السرديات الكبرى.. عالم العدم اللانهائي كما بَشّرَ
به نيتشه في العلم الجذل، فبعد موت الإله، وبعد أن نزع الإنسان القداسة عن كل شيء،
مات الإنسان نفسه.
تعليقات
إرسال تعليق