يمر اليوم، 9 فبراير ، مائة وخمسة وثلاثون عامًا على رحيل الأديب الروسيّ
فيودور ديستويفسكي، أحدّ أهم الشخصيات المؤثرة في الأدب العالمي، وواحدًا مِن مَن
شكلوا التراث الروحي للبشريّة. حملت رواياته
حسًّا إنسانيًا مُذهلًا ونظرة ثاقبة على العوالم النفسيّة للبشر.
ولد ديستويفسكي في 11 نوفمبر 1821 في موسكو ، تلقى تعليمه الأساسيّ في المنزل، ثم في مدرسة خاصة، وبعد وفاة والدته عام 1837 انتقل لسان بطرسبرج ودخل كلية الهندسة في الجيش، تخرج ديستويفسكي كمهندس عسكري إلا أنّه استقال لاحقًا ليتفرغ للكتابه. صدرت أول رواية له "المساكين" عام 1840 وهو في التاسعة عشر مِن عمره، وقد بدى مِنها أنَّنا أمام أعظم العقول الدراميّة بعد شيكسبير، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جورج ستاينر.
ربما كانت أكثر التجارب تأثيرًا في دستوفسكي والتي غيَّرت مِن تناوله ونظرتِه للحياة بشكل عام هي تجربة "الاقتراب من الموت،" عندما حُكم عليه بالإعدام بعد القبض عليه هو مجموعة مِن المثقفين الراديكاليين المفتونين بالنظريات الاشتراكية الطوباوية الفرنسية، ووجِهت لهم تهمة محاولة قلب نظام الحكم، فحُكم عليهم بالإعدام. وفي يوم تنفيذ الحكم، صباح 22 ديسمبر 1849، حفروا قبورهم وبُنيت منصة الإعدام ورُفعت شارات الإعدام السوداء، تُليت عليهم جرائمهم وطَلب منهم أحد القساوسة أن يتوبوا؛ وعُلِّق ثلاثة مِنهم بالفعل في المشانق، لكن في اللحظات الأخيرة نُفخ في الأبواق وصدر عفو إمبراطوري عليهم واستُبدِل الإعدام بالسجن! كان ديستويفسكي قد قضى في هذا الإعدام الوهميّ ما يُقارب الساعة، كل هذا وهو في الثامنة والعشرين مِن عمره. اعتبر ديستوفسكي هذه التجربة لاحقًا "حافة الموت،" وقد ظهر صدى هذا الرعب الذي عاشه لاحقًا في رواية "الأبلة" ورواية "ذكريات من منزل الأموات." علق ديستويفسكي على هذا اليوم بعد عدة سنوات قائلا: "لا أذكر أنني كنت سعيد في أي يوم مثل ذلك اليوم." لقد كان مقدار تلك السعادة الغامرة مُقابلًا لمقدار الرُعب الغامر الذي شعر بِه قُبيل الإعدام.
ولد ديستويفسكي في 11 نوفمبر 1821 في موسكو ، تلقى تعليمه الأساسيّ في المنزل، ثم في مدرسة خاصة، وبعد وفاة والدته عام 1837 انتقل لسان بطرسبرج ودخل كلية الهندسة في الجيش، تخرج ديستويفسكي كمهندس عسكري إلا أنّه استقال لاحقًا ليتفرغ للكتابه. صدرت أول رواية له "المساكين" عام 1840 وهو في التاسعة عشر مِن عمره، وقد بدى مِنها أنَّنا أمام أعظم العقول الدراميّة بعد شيكسبير، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جورج ستاينر.
ربما كانت أكثر التجارب تأثيرًا في دستوفسكي والتي غيَّرت مِن تناوله ونظرتِه للحياة بشكل عام هي تجربة "الاقتراب من الموت،" عندما حُكم عليه بالإعدام بعد القبض عليه هو مجموعة مِن المثقفين الراديكاليين المفتونين بالنظريات الاشتراكية الطوباوية الفرنسية، ووجِهت لهم تهمة محاولة قلب نظام الحكم، فحُكم عليهم بالإعدام. وفي يوم تنفيذ الحكم، صباح 22 ديسمبر 1849، حفروا قبورهم وبُنيت منصة الإعدام ورُفعت شارات الإعدام السوداء، تُليت عليهم جرائمهم وطَلب منهم أحد القساوسة أن يتوبوا؛ وعُلِّق ثلاثة مِنهم بالفعل في المشانق، لكن في اللحظات الأخيرة نُفخ في الأبواق وصدر عفو إمبراطوري عليهم واستُبدِل الإعدام بالسجن! كان ديستويفسكي قد قضى في هذا الإعدام الوهميّ ما يُقارب الساعة، كل هذا وهو في الثامنة والعشرين مِن عمره. اعتبر ديستوفسكي هذه التجربة لاحقًا "حافة الموت،" وقد ظهر صدى هذا الرعب الذي عاشه لاحقًا في رواية "الأبلة" ورواية "ذكريات من منزل الأموات." علق ديستويفسكي على هذا اليوم بعد عدة سنوات قائلا: "لا أذكر أنني كنت سعيد في أي يوم مثل ذلك اليوم." لقد كان مقدار تلك السعادة الغامرة مُقابلًا لمقدار الرُعب الغامر الذي شعر بِه قُبيل الإعدام.
![]() |
An execution of two nihilists in St Petersburg, 1880 |
لقد شحذت تلك المأساة المعنويّة والمعاناة البدنيّة مِن عقل ورؤيّة ديستويفسكي
للأشياء وللبشر، فأصبح أكثر حدّة في رفضه للظلم، قادرًا على تحليل وتصوير معاناة
الآخرين أكثر مِن ذي قبل. صحيح أنّه ظَلَّ مؤمنًا أن النظام الإقطاعي غير أخلاقي
بشدة وظَلَّ يكره الطبقة الأورستقراطيّة، إلا أنّه فقدَ إيمانه كليًا بكُلّ النظريات
الاشتراكيّة الطوباويّة التي كاد يُعدم مِن أجلها. عاد ديستويفسكي مِن المنفى بعد
عشر سنوات وقد تغير فيه كل شيء وللأبد. فبدأ بنشر أعمال عكست تجربة الاقتراب من
الموت والسجن والمنفى، وبدى جليًا أنه فقد الثقة في كل الأيديولوجيات التقدمية
التي آمن بها في صغره، بل ويحتقرها. فلا المادية الماركسية ولا الإنسانية
الألمانية ولا النفعية الإنجليزية أضحى لهم أي تأثيرًا عليه. أضف لذلك، أنَّ
ديستويفسكي لم يكن وجوديًا أيضًا كما يراه البعض.
ربما أكثر ما يُساء فِهم ديستوفيسكي فيه هو "اعتباره كاتبًا وجوديًا،" حتى أنَّ العديد مِن دارسيه وقُرَّاءه يعتبرونه من أوائِل الكُتَّاب الوجوديين، رغم أنَّ هذا التصنيف يعتبر إشكاليًا للغاية، فلا يمكن اعتبار ديستويفسكي وجوديًا لأنَّ شخصيات رواياته كانوا ذي نزعات وجوديّة. كما لا يجب تفسير اهتمامه الشديد بإشكاليَّات الوجود الإنساني والجوانب المُظلمة في النفس البشريّة بأنه اهتمام فيلسوف وجوديّ. فديستو يفسكي نفسه كان مسيحيا، حتى أن المعاني الكُلية التي تنطوي عليها أعماله شديدة التصوف الديني وبعيدة عن هوس حرية الإرادة، وفكرة أنْ ننسب إليه آراء شخصياته الوجوديّة خطأ كبير. لقد حاول توضيح مدى أثر الهيكل السياسيّ والاجتماعيّ في روسيا في زمانه على حيوات الأفراد. فمثلا، ما ورد على لسان بطل روايته "في قبوي" التي صدرت عام 1864، يوضح آثار هذا الهيكل على فرد من المجتمع، وليس رؤية ديستويفسكي الشخصية لما يجب أن يكون عليه الأفراد بشكل عام.
بلا شك حملت رواياته طابعًا فلسفيًا، لقد أحب ديستويفسكي استكشاف ماهيّة الوجود الإنساني والمعنى مِن وراء الوجود، طبيعة الخير والشر، وحدود العقل والمعرفة. لقد استطاع كأديب إثارة أكثر الإشكاليَّات الفلسفية تعقيدًا، كما يظهر بشدة في الأخوة كارامازوف. إلا أن تناوله لقضايا الوجود الإنسانيّ كان ذي حسّ فني لرجل حكيم أكثر مِنه كطرح فلسفيّ لفيلسوف عقلانيّ.
ترك ديستويفسكي إرثًا روحيًّا شديد الثراء للبشريّة، وإن كانت مُجمل أعماله حملت طابعًا فلسفيًا فإنما قصد بذلك إحداث إرتباك سلوكي وتعرية للمفاهيم ووضع المسلمات محل شك. لقد استطاع ثبر أغوار النفس البشريّة، وصاغ بالكلمات ما لا لم يستطع أحد صياغته من عواطف وتُرجمت أعماله لعدد لا يحصى من اللغات. وعلى الرغم مِن أنَّ المجتمع الروسي كان في محور أعمالِه التي حملت طابعًا قوميًا، إلا أنَّ المجتمع الروسي كان انعكاسًا لكلّ المجتمعات، كما عكست شخصيات رواياته كلّ الإنسانيّة، فقد كانت الصراعات الداخليّة لأبطال رواياته هي الصراعات التي غرق فيها كل النَّاس؛ بغض النظر عن أعراقهم وقومياتهم وهوياتهم. لقد ترك بصمته الواضحة على النفس البشريَّة وغَيّر الطريقة التي ينظر بها الناس لأنفسهم وينظر بها الناس للناس. حتى أنه استطاع أن يكون فيلسوفًا حكميًا، عالم نفس مُتمرّس وروائي ماهر. هل استطاع أحد غير ديستوفيسكي أن يكون كل هؤلاء في شخصه؟ لا أحد، هو فقط.
ربما أكثر ما يُساء فِهم ديستوفيسكي فيه هو "اعتباره كاتبًا وجوديًا،" حتى أنَّ العديد مِن دارسيه وقُرَّاءه يعتبرونه من أوائِل الكُتَّاب الوجوديين، رغم أنَّ هذا التصنيف يعتبر إشكاليًا للغاية، فلا يمكن اعتبار ديستويفسكي وجوديًا لأنَّ شخصيات رواياته كانوا ذي نزعات وجوديّة. كما لا يجب تفسير اهتمامه الشديد بإشكاليَّات الوجود الإنساني والجوانب المُظلمة في النفس البشريّة بأنه اهتمام فيلسوف وجوديّ. فديستو يفسكي نفسه كان مسيحيا، حتى أن المعاني الكُلية التي تنطوي عليها أعماله شديدة التصوف الديني وبعيدة عن هوس حرية الإرادة، وفكرة أنْ ننسب إليه آراء شخصياته الوجوديّة خطأ كبير. لقد حاول توضيح مدى أثر الهيكل السياسيّ والاجتماعيّ في روسيا في زمانه على حيوات الأفراد. فمثلا، ما ورد على لسان بطل روايته "في قبوي" التي صدرت عام 1864، يوضح آثار هذا الهيكل على فرد من المجتمع، وليس رؤية ديستويفسكي الشخصية لما يجب أن يكون عليه الأفراد بشكل عام.
بلا شك حملت رواياته طابعًا فلسفيًا، لقد أحب ديستويفسكي استكشاف ماهيّة الوجود الإنساني والمعنى مِن وراء الوجود، طبيعة الخير والشر، وحدود العقل والمعرفة. لقد استطاع كأديب إثارة أكثر الإشكاليَّات الفلسفية تعقيدًا، كما يظهر بشدة في الأخوة كارامازوف. إلا أن تناوله لقضايا الوجود الإنسانيّ كان ذي حسّ فني لرجل حكيم أكثر مِنه كطرح فلسفيّ لفيلسوف عقلانيّ.
ترك ديستويفسكي إرثًا روحيًّا شديد الثراء للبشريّة، وإن كانت مُجمل أعماله حملت طابعًا فلسفيًا فإنما قصد بذلك إحداث إرتباك سلوكي وتعرية للمفاهيم ووضع المسلمات محل شك. لقد استطاع ثبر أغوار النفس البشريّة، وصاغ بالكلمات ما لا لم يستطع أحد صياغته من عواطف وتُرجمت أعماله لعدد لا يحصى من اللغات. وعلى الرغم مِن أنَّ المجتمع الروسي كان في محور أعمالِه التي حملت طابعًا قوميًا، إلا أنَّ المجتمع الروسي كان انعكاسًا لكلّ المجتمعات، كما عكست شخصيات رواياته كلّ الإنسانيّة، فقد كانت الصراعات الداخليّة لأبطال رواياته هي الصراعات التي غرق فيها كل النَّاس؛ بغض النظر عن أعراقهم وقومياتهم وهوياتهم. لقد ترك بصمته الواضحة على النفس البشريَّة وغَيّر الطريقة التي ينظر بها الناس لأنفسهم وينظر بها الناس للناس. حتى أنه استطاع أن يكون فيلسوفًا حكميًا، عالم نفس مُتمرّس وروائي ماهر. هل استطاع أحد غير ديستوفيسكي أن يكون كل هؤلاء في شخصه؟ لا أحد، هو فقط.
![]() |
Detail from portrait of Fyodor Dostoevsky by Vasily Grigorievich Perov |
لقد كان ديستويفسكي نبيًا، حملت رسالته من الإنسانيّة والرحمة ما يكفي لنُدرك أن صراع الإنسان مع المعاناة والألم صراع أزلي. كُلنا خَطَّائين، والألم قدرنا جميعًا، والخلاص الوحيد هو أنْ نكون أكثر إنسانيّة، أكثر رحمة، أكثر تسامحًا وتواضعا. لم تكن نبوة ديستويفسكي طرحًا لماوراء الموت، لم تكن إجابة على أي إشكاليَّات ميتافزيقيّة، كانت إنسانية: كُلنا مذنبون، ورحمة الخالق تنال أكثرنا قدرة على الاعتراف بذنوبه والتسامح في ذنوب الآخرين.
في مثل هذا اليوم 9 فبراير 1881، رحل فيودور ديستويفسكي عن عالمنا، بعد الانتهاء من "الأخوة كارامازوف،" وبعد أن أصبح اسمه مُعادلا للعمق النفسي. أدعى لا حقًا العديد من الفلاسفة والعلماء بنوّتهم له. ترك أكبر الأثر على أندريه جيد، نيتشه، سارتر، سيجموند فرويد، ألبير كامو وغيرهم. فتنت حكاياته القُرَّاء ووضعتهم وجها لوجها مع معضلات المعنى، الوجود، الخير والشر.
إكتشاف دوستويفسكي يشبه كما يقول الأرجنتيني بورخيس: "اكتشاف الحب للمرة الأولى، أو مثل اكتشاف البحر فهو علامة على لحظة هامة في رحلة الحياة." . أحب الله فيودور ديستويفسكي.
___________________________________________________________________________________________
هذه التدوينة شخصيّة وليست مُترجمة..
تعليقات
إرسال تعليق