التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السريالية: كيف وصل العالم إلى هذا الحدّ مِن الجنون؟



"الحقيقة أنَّ الفنّ كان انعكاسا لجنونٍ أكبر عمَّ العالم بأسرِه في فترة كان ينفض فيها العالم عن نفسِه غبار حرب كونيّة أودت بحياة ملايينِ الأبرياء."

ظهرت السريالية في باريس في أوائل القرن العشرين، تقريبًا 1920، على يد مجموعة من الكُتَّاب والفنانين الذين ركزوا على اللاوعي كمصدر لأعمالهم الفنيّة والأدبية. تُعتبر السريالية من أكثر الحركات الفنية تأثيرًا في القرن العشرين، وقد انبثقت بشكل ما من حركة "الدادا
The Dada،" الدادا نفسها كحركة فنية انطلقت إبان الحرب العالمية الأولى مُعلنة عن ازدراءها للحرب وللحياة والثقافة الأوربية بشكل والتي اعتبرتها بلا معنى؛ قدم رسامو الداد أعمال فنية تحت شعار "ضد الفن أو بلا فن،" كتعبير منهم على حجم الهراء الذي غرقت فيه أوربا في تلك الفترة. مِن هنا بدأت الحركات والأعمال الفنيّة اللاحقة للدادا تأخذ مواقف عنيفة ضد الحروب والقتال وتصاعد أزمة المعنى. سريعًا ما بهتت الداد وتوارت عن الأنظار، ربما يرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى أن الداد كانت مُحاكاه لمدى القبح الذي وصل له العالم، وقد رفض العالم أن يصدق أنه على هذا القدر مِن القبح. خلفت الدادا ورائها بذور لحركة أكثر جنونًا وأقل قبحًا هي السريالية.

يقول الأب الروحي للسريالية الشاعر الفرنسي أندريه بريتون (1896- 1966) في أول مانفيستو كتبه عن الحركة أنه أراد أن يمزج بين الوعي واللاوعي ليصل بهم لعالم "الحقيقة المُطلقة." يُكمل بريتون في تعريفه للسريالية على أنها: "تلقائية النفس في أكثر صورها نقاءًا، فيُعبِر الفرد عن طريق الكتابة، أو أي صورة أخرى من صور التعبير، عمَّا يعتمِل في فكره.." استخدم بريتون كلمة "فوق واقعي أو فواقعي
Surreal" في وصف عمل فني اُستخدمت فيه صور خيالية وعناصر واقعية وقد تم الدمج بينهم لتظهر في النهاية الحقيقة المطلقة. مِن ثمَّا، أوعز بريتون للكُتَّاب والفنانين للاعتماد على اللاوعي كمصدر حقيقي للإلهام.

أعتقد السرياليون أن العقل اللاواعي هو المصدر لمعرفة الحقيقة المطلقة والوصول لها. فمزجت أعمال السريالين بين النظريات العلمية وتقنيات بصرية مثيرة لأشد الصور الذهنية غرابة والتي اعتبروها انعكاس نقي لعالم اللاوعي. فالعالم الواعي أثبت فشله في الوصول لمعنى أو حقيقة، ووحدها الصور اللاشعورية هي الممر المُتاح للوصول لفن نقيّ وحقيقة مُطلقة.

لكن كيف وصل اعتقاد بعض الكُتَّاب والفنانيين إلى أن اللاوعي هو الممر للحقيقة المطلقة؟ أو كيف وصل الفن لهذا الحد من الجنون؟

الحقيقة أنَّ الفن كان انعكاس لجنون أكبر عمَّ العالم بأسره في فترة كان ينفض فيها العالم عن نفسه غبار حرب كونية أودت بحياة ملايين الأبرياء. تحول هرع الجميع للبحث عن معنى إلى كابوس ألقى بظله على عالم الحداثة. ما معنى الأشياء؟ وما الغاية مِن وراء العالم؟ كيف وصلنا لهذه الحالة مِن الضمور الأخلاقي؟ كل تلك الأسئلة كان مِن الممكن أن يكون لها إجابة ميتافزيقية قديمًا يعوّل عليها الإنسان كغاية لكل فعل وعمل. بغياب تلك الإجابة وبروز نظريات أخرى في مركز الصدارة، انعكس بحث الإنسان عن المعنى، فبدلًا مِن البحث في العالم مِن حوله، بدأ البحث فيه بداخله.. رُبما لهذا السبب تعامل السرياليون مع اللاوعي وكأنَّه إله ميتافزيقي متجاوز له قدرة خارقة على إضفاء معنى على العالم والوصول بهم "للحقيقة المطلقة" على حد تعبير بريتون.

كيف ومتى وصلنا لهذا الحد مِن الجنون؟  أو كيف تم تأليه اللاوعي؟
يعود تأليه اللاوعي واعتباره السبيل للحقيقة المُطلقة إلى الفلاسفة والمفكرين الآتي ذكرهم والذين- بقصد أو بدون قصد- فتحوا الباب ليس فقط على هذا العالم الفواقعي بل على أزمة المعنى ككُلّ..

الأول هو:
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أهم فلاسفة عصر التنوير (1724- 1804) كرس كانط وفلاسفة عصر التنوير بشكل عام لفكرة دراسة الطبيعة طبقا لبحوث علمية تعتمد قوانين وقواعد ميكانيكية مجردة من أي نظرة ميتافزيقية للعالم. انعكس هذا المنهج على الفن والأدب اللذين اعتمدا بدورهم نظرة معادية للرومانسية؛ ساهم هذا العداء بدوره في نشاط حركة الفن والأدب الرومانسي في تلك الفترة في وجه حالة تحديث وعقلنة الطبيعة؛ لكن استمر فلاسفة ما بعد كانط بأن دشنوا للتناول العقلاني للطبيعة والإنسان والكون. ما فتح بدوره نافذة لرؤية الإنسان من الداخل بشكل مختلف عن الماضي حيث بدأ يُنظر للروح والعالم الداخلي في ظل آلية من التطورات التاريخية الديناميكية حتى عفى الزمن على عالم الرومانسية تمامًا.

الثاني هو:
الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (
1788- 1860) ذات الفلسفة التشاؤمية وهو من قدم مفهوم "اللاوعي" وسلط الضوء على اللاوعي كعالم ما ورائي لعالم العقل الواعي - وأن اللاوعي له تأثير وقدرة على تشكيل أفكار وأفعال الإنسان، وأن اللاوعي قد يكون وسيلة لإدراك بعض الحقائق التي لا يدركها الوعي.

الثالث هو:
الفيلسوف، الألماني أيضًا، فريدريك نيتشه (1844- 1900) والذي اعتبر شوبنهاور أستاذه الذي يدين له بالاحترام، طوَّر نيتشه من فلسفة شوبنهاور عن اللاوعي وأظهر توازن ما بين العالم الواعي والعالم اللاواعي وأصبح نيتشه بفلسفته وأفكاره بذره مؤسسة لفكر سيجموند فرويد. إلا أن نيتشه، والذي أعلن موت الإله، رسخ لأزمة المعنى بمقولته، وسواء قصد الموت حرفيًا أو مجازيًا، إلا أنه في جميع الأحوال سلط الضوء على أن الإنسان قتل في ذاته ونفسه أي بُعد ما ورائي متجاوز للحياة الدنيا.

الرابع هو:
سيجموند فرويد ( 1856- 1939) أشهر مؤسس لنظريات العقل واللاوعي – والذي أعطى مفهوم اللاوعي بُعدًا كونيًا. فسر فرويد الأحلام باعتبارها بوابة على اللاوعي ومفسر لديناميكية النفس البشرية
- أفكار فرويد عن اللاوعي والطب النفسي اُعتبرت أكبر محرك لظهور السريالية - فرويد نفسه نال قدر شديد من الاحترام والتقدير مِن قِبل السرياليين - لدرجة أن سلفادور دالي وهو أشهر رسام سريالي تقريبًا أهدى لوحته "مسخ نرسيس Metamorphosis of Narcissus"" لفرويد باعتباره كاشف النقاب عن العالم الحاضن للسريالية؛ عالم اللاوعي. هذا الأرشيف الضخم الذي يُسجل كُلّ شيء مِن لحظة الولادة حتى الموت هو الطريق نحو الحقيقة المطلقة.


(مسخ نارسيس لـ سلفادور دالي)


أعلام السريالية:
أندريه بريتون.. يُعتبر الشاعر الفرنسي أندريه بريتون (1896- 1966) هو الأب الروحي للسريالية وأحد مُنظري حركة الداد، كما أنه مَن كتب أول مانفيستو تُعلن فيه الحركة السريالية عن نفسها.

سلفادور دالي.. يُعد الرسّام الفرنسي سلفادور دالي (1904- 1989) أحد أشهر الرسامين في القرن العشرين وأشهر سريالي على الإطلاق، على الرغم من أنه معروف بلوحاته المثيرة للجدل إلا أنه له مساهمات سينمائية مع المخرج العالمي لويس بونويل في فيلم كلب أندلسي حيث أسس كلاهما لظهور السينما السريالية. حملت لوْحاته دالي طابع شديد الرمزية ودرجة من اللاواقعية مُفرطة على الرغم من أن المواضيع التي تناولتها لوحاته كانت معضلات الحياة الواقعية اليومية في عصره من أول الحرب العالمية الأولى وحتى بعد الحرب العالمية الثانية. ناقشت لوحاته الجنس والموت وتداعي الإنسان وكل هذا قدمه في إطار توليفة من النظريات النفسية لسيجموند فرويد. أحد أشهر لوحات دالي هي "إصرار الذاكرة
The persistence of memory" رسم فيها الزمن في صورة ساعات تذوب واحدة تلو الأخرى، حاول دالي أن يُقدم الخلل الذي أصاب مفهومنا للوقت بعد إعلان نظرية النسبية لأينشتاين.. الوقت مائع ونسبي تمامًا.


إصرار الذاكرة لسلفادور دالي


ختامًا،
قدم أعلام السريالية أمثال دالي، رينيه مارجريت وغيرهم أعمال اختلطت فيها العبقرية بالجنون. احتضن السرياليون أفكار سيجموند فرويد عن اللاوعي، وهرولوا وراء هذا العالم الجديد في محاولة منهم لإضفاء المعنى على عالم اللامعنى. وصلوا هم بعالم الحداثة للجنون أم أن عالم الحداثة هو ما أوصلهم للجنون! الاجابة بسيطة نحن أمام تبادل أدوار، عالم يصفعنا فنصفعه، ونصفعه فيصفعنا. في كل الأحوال اتخذت السريالية من اللاوعي وطن ومأوى في مواجهة عالم الحداثة الذي يمضي بعزم نحو الجحيم.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المقال تدوينة شخصية وليست مُترجمة ــ نُشر في موقع مصر العربيّة تحت عنوان "السريالية: كيف وصل العالم إلى هذا الحد من الجنون؟"





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الكون مكتوب بلغة الرياضيات؟

لطالما استخدم العلماء الرياضيات في التعبير عن الخصائص الفيزيائية للكون.. لكن ماذا لو أن الكون بأسره بناء رياضي! هذا ما يؤمن به عالم الكونيات ماكس تيجمارك. يرى تجمارك أن كل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي ( mathematical structure )، قد يرى المرء أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن للجزيئات خصائص مثل الشحنة الكهربائية والحركة، لكن تجمارك يجادل بأن هذه الخصائص هي محض رياضيات. كذلك الكون، أحد خصائصه الأبعاد، إلا إنه محض بناء رياضي. ’’لو بدأت في النظر للكون بكل ما يحتويه على إنه محض بناء رياضي، وأن لا خصائص له سوى الخصائص الرياضية. ستبدو فكرة أن كل شيء "رياضي" أقل جنونًا‘‘ .. يقول تجمارك في لقاء له اعتمادًا على كتابه "عالمنا الرياضي: سعيي لفهم طبيعة الواقع" ( Our Mathematical Universe:   My Quest For The Ultimate Nature Of Reality ) يقول تجمارك ’’لو أن أفكاري خاطئة، فإن الفيزياء ستُسحق كليًا.‘‘ مضيفًا ’’لكن لو أن الكون كله محض رياضيات، لن يكون هناك شيء عصيّ على الفهم.‘‘ Photo Credit الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات.. يقوم هذا الاستنتا

جون بيري: العدميّة وأزمة المعنى

لفظ عدمية ’ Nihilism ‘ مشتق أساسًا من الكلمة اللاتينية ’ Nihil ‘ والتي تعني لاشيء. يستخدم اللفظ في عدة مواضع في الفلسفة. بمعنى: لا يوجد شيء على الإطلاق.. أو لا يوجد مباديء أخلاقية على الإطلاق.. وكل ما يُساق من لفظ ’’اللاشيء‘‘ فهو عدمي. إلا أن الاستخدام الأكثر شيوعًا، والمستخدم على نطاق واسع اليوم، هو أن لا شيء نستخدمه، نبدعه أو نحبه له أي معنى أو قيمة على الإطلاق. العدمية بشكل عام ليست مجرد تعريف لموقف فلسفي معين، بل تعبير عن ميل عام، وعن حالة من الأسى: هل هذا كل شيء؟ هل الإنسانية ليست سوى عدد من السنين لا قيمة لها على كوكب لا يميزه أي شيء عن غيره في كون لا يُلقي لنا بالًا؟ هل لأي شيء قيمة؟ بالنسبة للعديد من الناس هذه الأسئلة ليست مجرد طرح فلسفي بل وجهة نظر حداثية للإنسانية كجزء ضئيل للغاية من الكون ككل.. كما يدعي العلم. في البداية ظهرت العدمية في المعاجم الفلسفية باعتبارها ’’اتهام‘‘. لم تبدأ كغيرها من المناهج الفلسفية بأن يقول أحد الفلاسفة ’’أنا عدمي‘‘ بل ’’أنت عدمي‘‘ كاتهام. وشعر البعض أنه لو صح ما قاله البعض الآخر من الفلاسفة حول العدمية.. فسيكون كل شيء بلا معنى. في

العدمية الأخلاقية

العدمية الأخلاقية هي اتجاه فلسفي متجاوز للأخلاق باعتبار أن كل الادعاءات الأخلاقية ليست صحيحة بشكل عام. تذهب العدمية الأخلاقية إلى أنه ليس هناك حقائق أخلاقية موضوعية أو افتراضات صحيحة – لا يمكن تصنيف شيء ’’أخلاقيا‘‘ على إنه جيد أو سيء، صح أو خطأ، ... إلخ – لأنه ببساطة لا يوجد حقائق أخلاقية (مثال على العدمية الأخلاقية, أن نقول أن القتل ليس خطأ، لكنه ليس صحيح أيضًا). تختلف العدمية الأخلاقية عن القناعات الأخلاقية الذاتية، والقناعات الأخلاقية النسبية، التي تكون فيها القضايا الأخلاقية صح أو خطأ بشكل غير موضوعي، في الواقع تذهب العدمية الأخلاقية إلى عدم وضع أي حكم أخلاقي ثابت بشأن أي قضية أخلاقية. الانتقادات الموجة للعدمية الأخلاقية تأتي في المقام الأول من المذاهب الأخلاقية الواقعية مثل الأخلاقية ال طبيعية و الأخلاقية غير طبيعية ، واللاتي تجادل بأن هناك حقائق أخلاقية إيجابية. العدمية الأخلاقية بشكل ما تعتبر نتاج النظرة المتجاوزة للعدمية. تُقدم فلسفة نيكولا ميكافيللي أحيانًا على إنها نموذج للعدمية الأخلاقية، لكن يجب وضع هذا الادعاء موضع فحص لأن ميكافيللي نفسه لم يكن