التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ماذا قصد دريدا بالتفكيك؟




سيذكر التاريخ جاك دريدا الذي توفي الأسبوع الماضي في باريس عن عمر يناهز 74 عام كواحد من أهم ثلاثة فلاسفة في القرن العشرين، جنبا إلى جنب مع مارتن هيدجر ولودفيج وتجنشتاين. لم يترك أي من المفكريين في المائة عام الماضية نفس الأثر الذي تركه جاك دريدا على الناس في مجالات وتخصصات مختلفة. فقد أدت كتاباته إلى حركة إحياء غير عادية  للفنون والعلوم الإنسانية خلال العقود الأربعة الماضية بين الفلاسفة، اللاهوتيين، نقاد الأدب والفن، علماء النفس والمؤرخين والكتّاب والفنانين والباحثين القانونيين وحتى المهندسين المعماريين. ومع ذلك لم يُساء فهم مفكر كما أُسيء فهم دريدا.

بالنسبة لمدمنين المقتطفات السريعة وقراءات الليلة الواحدة، ستبدو أعمال دريدا بالنسبة لهم غامضة وميؤوس منها. لا يمكن إنكار أن أعماله غير قابلة للتلخيص بسهولة أو تحويلها لمقتطفات. كما أن غموض كتاباته لا ينطوي على شفرة لحل هذا الغموض، لكن لطالما كان الغموض في حد ذاته سمة كل الأعمال العظيمة في الفلسفة والأدب والفن ذات الكثافة والتعقيد. كالنبيذ الفرنسي الممتاز، تظل أعمال دريدا ممتازة طوال العمر. فكلما تعمقت في أعماله، كلما كشفت لك المزيد عن نفسك وعن العالم.


ما يميز أعمال دريدا عند عدد كبير من الفلاسفة
والكتاب والفنانين ورجال الدين هي طريقته التي جعلتهم يتناولون المشاكل والقضايا المعاصرة من منظور مختلف. معظم نصوصه الأكثر إثارة للجدل هي عبارة عن تفسيرات في غاية الدقة لكُتّاب مثلوا جوهر التراث الفلسفي والأدبي والفني الغربي – من أفلاطون وحتى جيمس جويس. أظهر دريدا بقراءاته المضادة للتيار العديد من المعاني في العديد من الأعمال ما أتاح سبل جديدة للتعبير عن الخيال، إلا أن هذه الطريقة في القراءة كما أظهرت معاني فقد طمست أخرى.


اسم جاك دريدا وثيق الصلة وكثيرا ما يستشهد به عند ذكر مصطلح نادرا ما يُفهم وهو ’’التفكيك‘‘. صِيغَ التفكيك في البداية كاستيراتيجية لتفسير الأعمال المرئية والمكتوبة المعقدة، بذلك دخلت التفكيكية اللغة اليومية. عند فهم التفكيك بشكل جاد، ستجد أن الآثار المترتبة على التفكيك مختلفة تماما عن أي كليشيهات مضللة تستخدم في وصف تفريق وفصل الأشياء. نظرة دقيقة للتفكيك توضح أن كل
بنية سواء كانت أدبية أو نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية والتي تنظم تجاربنا تُسن ويُحافظ عليها بأفعال استبعادية. بمعنى أن أثناء خلق شيء ما، ستسبعد لا محالة ما لا يتفق معه.

تصبح هذه البُنى الاستثنائية قمعية، كما أن القمع يصبح أحد النتائج المترتبة عليها. بطريقة تذكرنا بفرويد، يصر جاك دريدا على أن ما يتم طمسه وقمعه يعود مرة أخرى لزعزعة البناء، مهما بدى البناء في مأمن. يفهم دريدا كيهودي جزائري
يكتب في فرنسا خلال سنوات ما بعد الحرب في أعقاب الشمولية بين يمين
فاشي ويسار ستاليني، خطر المعتقدات والأيديولوجيات التي تقسم العالم إلى أقطار متضادة: يمين أم يسار، ديمقراطي أم جمهوري، خير أم شر، معنا أم ضدنا. يبين دريدا أن هذه البُنى القمعية والتي انبثقت من النمط الفكري والثقافي الغربي ستعود علينا بنتائج كارثية. كافح دريدا للتغلب على الأنماط البنيوية التي تستبعد كل مختلف وتجعل الحياة لا تستحق العيش، مطورا بذلك رؤية أخلاقية دائمة.

عند منتقديه، كان جاك دريدا
ذلك العدمي الخبيث الذي يريد هدم أسس المجتمع والثقافة الغربية، بإصراره أن الحقيقة والقيم المطلقة لا يمكن إدراكهم على وجه اليقين، فيما يزعم منتقدوه، إنه يقوض أي إمكانية لحكم أخلاقي. فإتباع دريدا، وهذا ما يرفضونه، سيكون حتما كمحاولة صعود منحدر زلق من الشك والنسبية من أسفله ما سيفقدهم القدر على التصرف بمسئولية تجاه أي شيء.

كان هذا الانتقاد مهم ويتطلب رد دقيق. مثل
كانط، كيركيغارد ونيتشه، جاك دريدا لا يجادل بأن الحقيقة الواضحة والقيم المطلقة في متناول اليد. ومع ذلك، دريدا لا يعني إننا يجب أن نتخلى عن المجالات المعرفية والمباديء الأخلاقية التي لا نستطيع العيش بدونها: المساواة والعدالة والكرم والصداقة. بدلا من ذلك، وجب علينا فحص القيود التي تحاصرنا والتناقضات الكامنة في الأفكار والمعايير التي توجه أفعالنا، والقيام بذلك بطريقة تبقي الباب مفتوح أمام الفحص والتنقيح المستمر. في النهاية لا يمكن أن يكون هناك أي بنية أخلاقية دون أبعاد نقدية.

خلال العقد الأخير من حياته، أصبح جاك دريدا منشغل جدا بالدين وفي هذا المجال تحديدا تكمُن أكبر إسهاماته. فهم دريدا إنه لن يكون هناك دين بدون شك. وسواء كان الرب هو يهوه، يسوع المسيح أو الله سيظل الرب غير معروف بشكل كامل وغير ممثل بشكل كاف بحكم طبيعة النفس البشرية الناقصة.

وحتى الآن،
نعيش في عصر تتشكل الصراعات الكبرى فيه من قِبل ناس يدعون يقينا، أن الله يقف إلى جانبهم. يذكرنا دريدا أن الدين لا يعطي أحيانا معاني واضحة أو حتى غايات وحقائق بتقديم بُنى آمنة. على العكس من ذلك، تثير الأعراف الدينية الجليلة قلق عميق في النفوس لأنها تضع مفاهيم اليقين والأمن محل تساؤل. فالإيمان الذي لا يعتريه شك يمثل خطرا مميتا.


ولما كانت العولمة تقربنا أكثر من أي وقت مضى في شبكات التواصل والتبادل، ظهر شوق مفهوم للبساطة والوضوح واليقين. هذه الرغبة هي المسؤولة، إلى حد كبير، عن صعود المحافظة الثقافية والأصولية الدينية في هذا البلد وحول العالم. المؤمنون من كل دين – مسلمون ومسيحيون ويهود، متشبثون بمعتقدات
تهدد بتمزيق العالم، وهذا ما حذر منه دريدا.

لحسن الحظ، علمنا دريدا أن بديل الإيمان الأعمى ليس عدم الإيمان إنما نوع مختلف من الإيمان -  الإيمان الذي يعتريه الشك ما يمكنا من احترام الآخرين حتى لو بدو غير مفهومين. في عالم معقد كعالمنا، أصبحت الحكمة تكمن في إدراكك إنك لا تدري، وهذا ما يُبقي الباب على المستقبل مفتوح.

في العقدين اللذين عرفت فيهم جاك دريدا، كان لدينا العديد من اللقاءات والنقاشات المتبادلة، كان يستمع بعناية ويرد بدقة على الأسئلة التي يطرحها سواء الطلبة الجامعيين أو الزملاء. كمدرس، قدم وقته بسخاء لتعليم أجيال من الطلاب.

لكن أشياء صغيرة قد تدل على صفات عظيمة، في عام 1986، كانت عائلتي وأنا في باريس وأرسل دريدا دعوة لنا على العشاء في منزله في الضواحي الذي يبعد 20 ميل عن المدينة. أصر دريدا على توصيلنا من الفندق لبيته، وعندما وصلنا لبيته قدم لأطفالنا أقنعة كرنفالية كهدايا. وفي الثانية صباحا قادنا مرة أخرى للفندق. في السنوات اللاحقة، عندما كان ابني وبنتي يكتبون أوراق بحثية عن أعماله، أرسل لهم
رسائل وبطاقات بريدية للتشجيع فضلا عن نسخ موقعة للعديد من كتبه. كتب جاك دريدا كثيرا عن فضل الصداقة، لكن في هذه الإيماءات الهادئة – الإيماءات التي عملت على إقامة صلات بين أفراد مختفلين – نرى التفكيكية في العمل.







نشر هذا المقال في مجلة نيويورك تايمز عقب وفاة جاك دريدا للفيلسوف مارك تايلور بتاريخ 14 أكتوبر 2004 بعنوان
 
What Derrida Really Meant

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الكون مكتوب بلغة الرياضيات؟

لطالما استخدم العلماء الرياضيات في التعبير عن الخصائص الفيزيائية للكون.. لكن ماذا لو أن الكون بأسره بناء رياضي! هذا ما يؤمن به عالم الكونيات ماكس تيجمارك. يرى تجمارك أن كل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي ( mathematical structure )، قد يرى المرء أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن للجزيئات خصائص مثل الشحنة الكهربائية والحركة، لكن تجمارك يجادل بأن هذه الخصائص هي محض رياضيات. كذلك الكون، أحد خصائصه الأبعاد، إلا إنه محض بناء رياضي. ’’لو بدأت في النظر للكون بكل ما يحتويه على إنه محض بناء رياضي، وأن لا خصائص له سوى الخصائص الرياضية. ستبدو فكرة أن كل شيء "رياضي" أقل جنونًا‘‘ .. يقول تجمارك في لقاء له اعتمادًا على كتابه "عالمنا الرياضي: سعيي لفهم طبيعة الواقع" ( Our Mathematical Universe:   My Quest For The Ultimate Nature Of Reality ) يقول تجمارك ’’لو أن أفكاري خاطئة، فإن الفيزياء ستُسحق كليًا.‘‘ مضيفًا ’’لكن لو أن الكون كله محض رياضيات، لن يكون هناك شيء عصيّ على الفهم.‘‘ Photo Credit الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات.. يقوم هذا الاستنتا

جون بيري: العدميّة وأزمة المعنى

لفظ عدمية ’ Nihilism ‘ مشتق أساسًا من الكلمة اللاتينية ’ Nihil ‘ والتي تعني لاشيء. يستخدم اللفظ في عدة مواضع في الفلسفة. بمعنى: لا يوجد شيء على الإطلاق.. أو لا يوجد مباديء أخلاقية على الإطلاق.. وكل ما يُساق من لفظ ’’اللاشيء‘‘ فهو عدمي. إلا أن الاستخدام الأكثر شيوعًا، والمستخدم على نطاق واسع اليوم، هو أن لا شيء نستخدمه، نبدعه أو نحبه له أي معنى أو قيمة على الإطلاق. العدمية بشكل عام ليست مجرد تعريف لموقف فلسفي معين، بل تعبير عن ميل عام، وعن حالة من الأسى: هل هذا كل شيء؟ هل الإنسانية ليست سوى عدد من السنين لا قيمة لها على كوكب لا يميزه أي شيء عن غيره في كون لا يُلقي لنا بالًا؟ هل لأي شيء قيمة؟ بالنسبة للعديد من الناس هذه الأسئلة ليست مجرد طرح فلسفي بل وجهة نظر حداثية للإنسانية كجزء ضئيل للغاية من الكون ككل.. كما يدعي العلم. في البداية ظهرت العدمية في المعاجم الفلسفية باعتبارها ’’اتهام‘‘. لم تبدأ كغيرها من المناهج الفلسفية بأن يقول أحد الفلاسفة ’’أنا عدمي‘‘ بل ’’أنت عدمي‘‘ كاتهام. وشعر البعض أنه لو صح ما قاله البعض الآخر من الفلاسفة حول العدمية.. فسيكون كل شيء بلا معنى. في

العدمية الأخلاقية

العدمية الأخلاقية هي اتجاه فلسفي متجاوز للأخلاق باعتبار أن كل الادعاءات الأخلاقية ليست صحيحة بشكل عام. تذهب العدمية الأخلاقية إلى أنه ليس هناك حقائق أخلاقية موضوعية أو افتراضات صحيحة – لا يمكن تصنيف شيء ’’أخلاقيا‘‘ على إنه جيد أو سيء، صح أو خطأ، ... إلخ – لأنه ببساطة لا يوجد حقائق أخلاقية (مثال على العدمية الأخلاقية, أن نقول أن القتل ليس خطأ، لكنه ليس صحيح أيضًا). تختلف العدمية الأخلاقية عن القناعات الأخلاقية الذاتية، والقناعات الأخلاقية النسبية، التي تكون فيها القضايا الأخلاقية صح أو خطأ بشكل غير موضوعي، في الواقع تذهب العدمية الأخلاقية إلى عدم وضع أي حكم أخلاقي ثابت بشأن أي قضية أخلاقية. الانتقادات الموجة للعدمية الأخلاقية تأتي في المقام الأول من المذاهب الأخلاقية الواقعية مثل الأخلاقية ال طبيعية و الأخلاقية غير طبيعية ، واللاتي تجادل بأن هناك حقائق أخلاقية إيجابية. العدمية الأخلاقية بشكل ما تعتبر نتاج النظرة المتجاوزة للعدمية. تُقدم فلسفة نيكولا ميكافيللي أحيانًا على إنها نموذج للعدمية الأخلاقية، لكن يجب وضع هذا الادعاء موضع فحص لأن ميكافيللي نفسه لم يكن