التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نيتشه الحاضر الغائب


تقديم إريك والتر للوغد مُحطم الثوابت



كان فريدريك نيتشه، والذي ولد عام 1844 وغرق تماما في الصمت عام 1889 وتوفى بعد ذلك بإحدى عشرة سنة، أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين. ما جعله، ولايزال يجعله، شديد الأهمية تناوله شديد الوضوح والمثير للإعجاب لأكثر إشكاليات الحداثة إثارة للقلق، إشكالية القيم. وعلى الرغم من أن محاولاته لم تكلل بالنجاح إلا أنها أظهرت طبيعة وعمق الإشكاليات التي لاتزال تؤرقنا حتى اليوم.

دعونا نبدء من إعلانه الصادم ’’موت الإله‘‘ في كتابه (العلم المرح) 1872. ينتشر في زمننا هذا التفكير العلماني، لكن في زمن نيتشه كان يعتبر هذا الإعلان نبوءة شديدة الدلالة. الدلالة المقصودة هنا لا تشير إلى الإلحاد: على الرغم من أن نيتشه كان بالتأكيد ملحدًا، إلا إنه لم يكن أحد رواد الإلحاد الأوربي، لكن الدلالة تكمن في سوسيولوجية الإعلان. يقصد نيتشه أن حلول الله كمعنى في الأشياء لم يعد موجودًا في الثقافة الغربية. حسنًا، مصطلح سوسيولوجية مبهم نوعا ما، حيث لا يوجد ما يعادل القيم، كمل يؤكد نيتشه. فموت الإله كان بمثابة هدم حجر الزاوية في منظومة القيم الغربية، وفتح باب للحضارة الغربية على الهاوية. فقد فقدت كل القيم معناها، وأصبحنا نسير على غير هَدي سواء أدركنا هذا أم لا. والسؤال الآن، ماذا نفعل؟

ربما تبدو قضية ’’موت الإله‘‘ مألوفة لنا في البداية. حيث يجادل المحافظون المسيحيون أن فكرة أن الرب غير موجود تعني بالضرورة أن القيم الأخلاقية غير موجودة أيضًا، إلا أن العلمانيين الإنسانيين يرون أن الأحكام الأخلاقية التي نتخذها لا علاقة لها بوجود الله من عدمه. يتفق نيتشه مع الملحدين بأن القيم الأخلاقية فقدت الموضوعية كسمة، لكن يختلف عنهم في أنه لا يتخذ ’أزمة المعنى‘ كسبب يرده للإيمان بالله. فهو لا يرى أن القيم تولد معناها ذاتيًا، بحيث تصبح قناعات شخص ما سليمة قياسا بقناعات شخص آخر. بدلا من ذلك، يرى نيتشه أن للقيم قوة، وتزدهر القيم كذلك بالقوة: ككل الأعمال الفنية، تكمن عظمتها في قدرتها على تحريكنا. للإعلام قوة وقدرة على التلاعب بمشاعر الناس، لكن ليس هذا النوع من القوة ما يجعل القيم تزدهر، لأن معظم الناس تقريبا يسيرون في القطيع. وكل ما يتعلق بالقيم كمرجعية بالنسبة لعوام الناس (وبالنسبة حتى للطبقة الأرستوقراطية) هي محاولة منهم للتمسك بموضوعية القيم. لكن إذا كانت موضوعية القيم هي غاية في حد ذاتها، فيجب البحث عن مصدر جديد وجذري بل وفردي كليا للقيم. يصبح بذلك مفهوم نيتشه عن سلطة القيم وقوتها نخبوي: فوحدهم العظماء من يستطيعون خلق القيم.

يجادل نيتشه كذلك أن في العصور الغابرة، كانت القيم تنتمي لمن ابتدعها:

’’حقّا أقول لك يا أخي، إن أنت عرفت أولا محنة شعب وبلده وسماءه وجاره، فستحرز دون عناء قانون تغلبه به وما الذي يجعله يتسلق هذا السلم باتجاه آماله.

لا بد أن تكون الأول دومًا وتتجاوز الآخرين: ولا ينبغي لروحك الغيورة أن تحبّ أحدا، عدا أن يكون صديقا – ذلك ما كانت تخفق به روح اليوناني: وهكذا راح يسلك دربه إلى العظمة.

"كن وفيّا ومن أجل وفائك لتبذلْ دمك وشرفك في أكثر الأشياء ضررًا ومخاطرة": بمثل هذه التعاليم استطاع شعب آخر أن يتغلب على نفسه، وفي التغلّب على نفسه على هذا النحو غدا أحبل ومثقلًا بعظيم الآمال.

- هكذا تكلم زرادشت، الكتاب الأول، 1883

وهكذا، كانت القوة التي يُعرف به الناس أنفسهم في العصور القديمة هي ما خلقت أيضًا فضائلهم. ثم جاء بعد ذلك ما يسميه نيتشه بالتعقيد المتدهور للمسيحية، حيث أصبح الضعف هو ما يعتبر جوهر الفضائل وليس القوة: ’’
طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ.‘‘ (متى 5:5) وفي الواقع، فإن الطبقة الكهنوتية الحاكمة لا تمارس رغبتها في السلطة بانتصارها على الشعوب الوثنية، لكن بتحويل كل الغرائز الحيوانية التي تعتبر فخر الإنسان إلى رغبة في الفقر، إماتة الجسد، الإحساس بالذنب على الخطأ؛ مفاد رسالة الرب المعلق على الصليب هي المعاناة. والرسالة واضحة وهي أن الفضيلة لا تكمن في الرجال العظماء الدنيوين، بل فيما يتجاوز الدنيوية، والحقيقة عكس ذلك: فسلطة الكهنة ظهرت في انتصارتهم على ما يميزهم. هذا النصر في المسيحية "كارثة" حيث يقوم على إنكار الذات وليس على الرغبة في الحياة كما يسميه نيتشه. لكن بموت الإله، انهارت فكرة الضعف كجوهر للقيم، وليس لدى إنسان الحداثة ما يمنعه من أن يحل شيء آخر محل هذا. فـ’قيمنا‘ عبارة عن قطع أدبية متعارضة وغير متماسكة مجمعة من العديد من المصادر. سمى نيتشه هذه القيم ’’البقرة متعددة الألوان‘‘. يوضح تعدد سُبل الإيمان في الغرب اليوم ما تنبأ به نيتشه بجدارة: القيم كالسلع الإستهلاكية، تم المزج بينها وتنسيقها. أدت هذه السخافة في النهاية لخور القوى. لكن متى وأين تستطيع إرادة الإنسان كقوة أن تحكم إنطلاقا من مجموعة جديدة من القيم؟ كانت هذه هي معضلة نيتشه، وقد أصبحت بعد ذلك معضلة الحداثة، كما تنبأ تمامًا.

ككل الفلاسفة العظام، حاول نيتشه محاولات بطولية أن يحل معضلته، وأعطى الحل اسم
Übermensch، ويترجم حرفيا إلى ’الحاكم المطلق‘، ويؤلمنا أن نترجمه إلى ’السوبر مان‘. فهو ليس مجرد إنسان، بل هو ما يخلق الفضائل ويعطيها قيمتها، وفرديته تبرهن على كونه غير مؤهل للمهمة. إلا أن عظمته تكمن في استعدادته الجسور للتجربة: ’’فكما تمثل القرود حرجًا للإنسان، سيمثل الإنسان حرجًا للسوبر مان‘‘. فالسوبر مان هو نوع من الأفراد لديه ثقة شديدة في قدراته، ومن خلال التأكيد الشديد على تفرده، قد تُخلق فضائل جديدة: فضائل لا يخلقها الناس، ولا تنبع قوتها كونها من لدن إله متجاوز، ولكن ولأول مرة تنبع قوتها ويبررها تفرد الشخص الذي يقوم بها وتعريفه لها على أن هذه هي القيم. وهذه القيم يجب أن تُخلق خلقًا، لا أن تكتشف كأنها كانت موجودة بالفعل.

لم يدعي نيتشه أنه يعرف بالتفاصيل ما هو السوبر مان. أعتقد جديًا أن السوبر مان سيكون له أقران، سيكون له أخوة مجازيين، إلا أنه فرد ومتفرد على الرغم من هذا: فسوبر مان المستقبل ليس له جنس. لذلك فإن معظم دارسي نيتشه يعتبرون أكبر جرائمه هو مفهوم السوبر مان الذي وظفته النازية بعد ذلك في صراع العرق الأنقى. على الرغم من أن نيتشه أعرب عن احتقاره للمعادين للسامية ولكل الدعاية التي تقوم بها ألمانيا عن تفوق الجنس الآري. فإنسان الحداثة، الإنسان الشامل، يعتبر لعنة بالنسبة لنيتشه. ففكرة أن الإنسان الحديث عندما "يكون نفسه" يستطيع تجاوز الإرث الإبداعي لشعوب بأكملها ويكون السوبر مان: ’محض هراء‘. معظم الناس أصغر بكثير من هذه المهمة. يستطيع كل فرد العيش وفق ما يعتبره ’قيمه الخاصة‘، لكنها ليست عادة قيمه الخاصة: بل شذرات مجمعة من هنا وهناك في معرض الحداثة، وليس للإنسان أدنى فكرة من أين أتت هذه القيم. فليس هناك شيء أكثر وضوحًا بالنسبة لنيتشه من أن الإنسان العادي لا يعرف كيف تؤسس القيم. 

أعتقد أن نيتشه يقدم لائحة اتهامات للحداثة. بالطبع، قد يكون نيتشه مخطئ بخصوص أن الفضيلة هي ما تخلقها إرادة القوة. أنا نفسي، أرى إنه مخطئ. فأنا أتفق معه بخصوص أن الفرد هو ما يخلق الفضيلة، لكن لا أتفق معه في أن من يخلق الفضيلة لا بد أن يكون السوبر مان. علاوة على ذلك، أعتقد أن هناك قيم تتجاوز الإنسان كخالق للقيم. في هذا الصدد، أنا أنتمي لكانط، بالطبع، الإنسان كفرد متعدد الثقافات في زمن الحداثة لا يستطيع خلق القيم، لكن يمكن الاحتفاظ للأفراد بصلاحية التشريع، بعيدا عن إحساس البعض بأنهم خارقون بالنسبة للآخرين.

لماذا لا يزال إنسان الحداثة مُعذب إذن؟ لا أعرف، لكنني لن أتفاجأ إذا كان نيتشه هو أعظم فلاسفة القرن العشرين أيضًا.

د/ إريك والتر 2012
_________________________________________________________________________________________
د / إريك والتر يُدرّس الفلسفة منذ عام 1967، ويُدرّس علم الحاسب الآلي منذ عام 1983، في جامعة لونج آيلاند، تقاعد عام 2003، حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة ييل، وحاصل على ماجستير في علوم الحاسب من جامعة بوليتكنك.
_________________________________________________________________________________________

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الكون مكتوب بلغة الرياضيات؟

لطالما استخدم العلماء الرياضيات في التعبير عن الخصائص الفيزيائية للكون.. لكن ماذا لو أن الكون بأسره بناء رياضي! هذا ما يؤمن به عالم الكونيات ماكس تيجمارك. يرى تجمارك أن كل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي ( mathematical structure )، قد يرى المرء أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن للجزيئات خصائص مثل الشحنة الكهربائية والحركة، لكن تجمارك يجادل بأن هذه الخصائص هي محض رياضيات. كذلك الكون، أحد خصائصه الأبعاد، إلا إنه محض بناء رياضي. ’’لو بدأت في النظر للكون بكل ما يحتويه على إنه محض بناء رياضي، وأن لا خصائص له سوى الخصائص الرياضية. ستبدو فكرة أن كل شيء "رياضي" أقل جنونًا‘‘ .. يقول تجمارك في لقاء له اعتمادًا على كتابه "عالمنا الرياضي: سعيي لفهم طبيعة الواقع" ( Our Mathematical Universe:   My Quest For The Ultimate Nature Of Reality ) يقول تجمارك ’’لو أن أفكاري خاطئة، فإن الفيزياء ستُسحق كليًا.‘‘ مضيفًا ’’لكن لو أن الكون كله محض رياضيات، لن يكون هناك شيء عصيّ على الفهم.‘‘ Photo Credit الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات.. يقوم هذا الاستنتا

جون بيري: العدميّة وأزمة المعنى

لفظ عدمية ’ Nihilism ‘ مشتق أساسًا من الكلمة اللاتينية ’ Nihil ‘ والتي تعني لاشيء. يستخدم اللفظ في عدة مواضع في الفلسفة. بمعنى: لا يوجد شيء على الإطلاق.. أو لا يوجد مباديء أخلاقية على الإطلاق.. وكل ما يُساق من لفظ ’’اللاشيء‘‘ فهو عدمي. إلا أن الاستخدام الأكثر شيوعًا، والمستخدم على نطاق واسع اليوم، هو أن لا شيء نستخدمه، نبدعه أو نحبه له أي معنى أو قيمة على الإطلاق. العدمية بشكل عام ليست مجرد تعريف لموقف فلسفي معين، بل تعبير عن ميل عام، وعن حالة من الأسى: هل هذا كل شيء؟ هل الإنسانية ليست سوى عدد من السنين لا قيمة لها على كوكب لا يميزه أي شيء عن غيره في كون لا يُلقي لنا بالًا؟ هل لأي شيء قيمة؟ بالنسبة للعديد من الناس هذه الأسئلة ليست مجرد طرح فلسفي بل وجهة نظر حداثية للإنسانية كجزء ضئيل للغاية من الكون ككل.. كما يدعي العلم. في البداية ظهرت العدمية في المعاجم الفلسفية باعتبارها ’’اتهام‘‘. لم تبدأ كغيرها من المناهج الفلسفية بأن يقول أحد الفلاسفة ’’أنا عدمي‘‘ بل ’’أنت عدمي‘‘ كاتهام. وشعر البعض أنه لو صح ما قاله البعض الآخر من الفلاسفة حول العدمية.. فسيكون كل شيء بلا معنى. في

العدمية الأخلاقية

العدمية الأخلاقية هي اتجاه فلسفي متجاوز للأخلاق باعتبار أن كل الادعاءات الأخلاقية ليست صحيحة بشكل عام. تذهب العدمية الأخلاقية إلى أنه ليس هناك حقائق أخلاقية موضوعية أو افتراضات صحيحة – لا يمكن تصنيف شيء ’’أخلاقيا‘‘ على إنه جيد أو سيء، صح أو خطأ، ... إلخ – لأنه ببساطة لا يوجد حقائق أخلاقية (مثال على العدمية الأخلاقية, أن نقول أن القتل ليس خطأ، لكنه ليس صحيح أيضًا). تختلف العدمية الأخلاقية عن القناعات الأخلاقية الذاتية، والقناعات الأخلاقية النسبية، التي تكون فيها القضايا الأخلاقية صح أو خطأ بشكل غير موضوعي، في الواقع تذهب العدمية الأخلاقية إلى عدم وضع أي حكم أخلاقي ثابت بشأن أي قضية أخلاقية. الانتقادات الموجة للعدمية الأخلاقية تأتي في المقام الأول من المذاهب الأخلاقية الواقعية مثل الأخلاقية ال طبيعية و الأخلاقية غير طبيعية ، واللاتي تجادل بأن هناك حقائق أخلاقية إيجابية. العدمية الأخلاقية بشكل ما تعتبر نتاج النظرة المتجاوزة للعدمية. تُقدم فلسفة نيكولا ميكافيللي أحيانًا على إنها نموذج للعدمية الأخلاقية، لكن يجب وضع هذا الادعاء موضع فحص لأن ميكافيللي نفسه لم يكن