التخطي إلى المحتوى الرئيسي

داعش والثورة الفرنسية: هل تنتمي داعش إلى الإسلام أم إلى الحداثة؟

إذا أردنا حقًا فهم أيديولوجية وعنف داعش يجب النظر بدقة للثورة الفرنسية.


عمليات الإعدام بالإغراق لأعداء الثورة في فرنسا 1793-1794



كان هناك جلبة متواترة خلال الأسابيع الماضية عن أن الدولة الإسلامية (داعش) وأيديولوجيتها هي ارتداد للماضي السحيق. يُصاغ هذا الرأي غالبا في قالب لغوي كالذي استخدمه نيك كليج نائب رئيس الوزراء البريطاني ’’من القرون الوسطى‘‘. لكن الحقيقة أن فكر الجماعات الإرهابية يضرب بجذوره في الحداثة الغربية.

تدخُل كليج ليس مفاجيء، بالنظر للعنف الشديد الذي يظهره مقاتلي داعش في صور الأجساد مقطوعة الرؤوس، فمن الطبيعي أن نحاول فهم السبب وراء الأفعال شديدة التطرف ’’للآخر‘‘.

لكن هذا لا يساعدنا بالضرورة في فهم هذا الوضع الحرج. بشكل خاص، يميل هذا الرأي إلى قبول واحدة من أساسيات الفكر الجهادي المعاصر، أي أن الأمر يعود برمته إلى أصول الإسلام. يقول أحد مؤيدي داعش مِن مَن أتابعهم على تويتر ’’العالم يتغير.. الإسلام لا‘‘.

ما نطرحه الآن ليس مجرد نقاش أكاديمي. بل مسألة ذات تأثير في أرض الواقع. أحد الأسباب التي تجذب بعض الشباب للفكر الجهادي هو تحويل السلطة الجيلية إلى الشباب. الجهاديون، وبشكل أوسع الإسلاميون، يقدمون أنفسهم على أنهم صحيح الدين، مدعين أنَّ أهاليهم غارقون في العادات والتقاليد والثقافات.

يجب أن نقولها صراحة: الجهادية المعاصرة ليست ارتداد للماضي. بل أيديولوجية حديثة، ضد التقاليد، متطورة من التاريخ السياسي والثقافة الغربية.

عندما اعتلى أبو بكر البغدادي منبر مسجد الموصل العظيم في يوليو الماضي معلنًا قيام ’’الدولة الإسلامية‘‘ وهو الخليفة فيها، استشهد البغدادي بفقرة طويلة للمفكر الهندي/ الباكستاني أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية عام 1941ومنشيء مصطلح ’’الدولة الإسلامية‘‘ المعاصر.

تتشكل ’’الدولة الإسلامية‘‘ عند المودودي بشكل كبير من الأفكار والمفاهيم الغربية. ينطلق المودودي من مفهوم متداول بين الإسلام وغيره من التقاليد الدينية بأن الرب وحده هو الحاكم المطلق للأفراد، ويقدم هذا المفهوم في صيغة- أن الله هو الحاكم فوق عباده وبالتالي تصبح السيادة المطلقة للرب. يؤسس المودودي كذلك لفكرة أن القوانين التي تحكم العالم الطبيعي هي إرادة الرب- كل هذه الأفكار  كانت في القلب من الثورة العلمية التي شهدها القرن السابع عشر. يدمج المودودي بين هذه الرؤيا وفكرة السيادة المطلقة للرب، يذهب المودودي في تطبيق هذه الرؤيا على الحياة السياسية، مؤكدا ’’إن الحكم إلا لله‘‘ (منهج الحياة الإسلامية). بالتالي، دمج المودودي بين الدولة والديني، فيصبح الرب هو المشرع السياسي، وتصبح السياسة مقدسة.

هذه الرؤيا ’’سيادة الرب‘‘ غائبة تمامًا في ثقافة القرون الوسطى بعالمها متعدد السلطات والأقسام. ويضرب المفهوم بجذوره بدلا من ذلك في نظام الويستفاليا(1) الغربي للدول والثورة العلمية الحديثة.

لكن مساهمات التاريخ السياسي الأوربي في فكر المودودي تمتد إلى ما هو أبعد من مفهومه عن السيادة المطلقة للرب. فالمؤسس الحقيقي لمفهوم المودودي عن السيادة هو فهمه للثورة الفرنسية، والذي رأي فيها فكرة الدولة ’’المؤسسة على مجموعة من المباديء‘‘ والمختلفة بدورها عن فكرة الشعب أو الأمة. بالنسبة للمودودي، كانت الفكرة ستذبل حتمًا في فرنسا، ويجدر بهذه الفكرة أن تنتظر قيام دولة إسلامية.

في فرنسا الثورية، كانت الدولة هي التي تخلق المواطن ولا ينبغي لشيء أن يعيق الدولة عن ذلك. لهذا السبب، لا تزال الوكالات الحكومية الفرنسية حتى اليوم ممنوعة بموجب القانون من جمع أي بيانات عرقية عن المواطنين، حتى لا تصبح الأعراق مجتمع وسيط بين الدولة والمواطن.

’’هذا المواطن العالمي‘‘ المفصول عن البيئة، التاريخ والأمة يقع في القلب من رؤية المودودي ’’للمواطنة في الإسلام‘‘. تمامًا كما أنشأت الدولة الفرنسية مواطنيها، مواطنين لا يمكن تخيلهم خارج إطار الدولة، من نفس المنطلق تتعامل الدولة الإسلامية مع مواطنيها.

لا تبحث في القرآن لفهم ما يدور- بل انظر إلى الثورة الفرنسية وإلى علمنة فكرة: ’’(الثالوث داخل الكنيسة فقط) لا عبودية خارج الكنيسة‘‘ التي تضرب بجذورها في المسيحية الأوربية، والتي تحولت بعد ذلك مع ظهور الدول الأوربية بشكلها الحداثي فأصبحت: ’’لا وجود شرعي للأفراد خارج إطار الدولة‘‘. لازالت هذه الفكرة تهيمن بقوة حتى اليوم، لذلك يُنظر للفرد خارج إطار الدولة على إنه ’’لاجيء‘‘.

هذه هي دولة داعش الحداثية بامتياز، وكذلك عنفها، فهو أيضًا حداثي. مقاتلوا داعش لا يقتلوا الضحايا ببساطة، بل يسعون إلى إذلال الضحية، كما رأيناهم في الفترة الماضية يقودون بعض الضحايا السوريين إلى موتهم بملابسهم الداخلية. يسعى المقاتلون إلى إلحاق العار بجثث الضحايا، ولا سيما بعد وفاتهم.

هذه الممارسات البشعة تهدف إلى سحق الجسد بما يعنيه من خصوصية وتفرد، فتُطمس خصوصية الجسد ليصبح مشاع، فتشوية الجسد المقصود منه القضاء على ما كان يومًا ’’إنسان‘‘ وإظهاره في هيئة ’’غريب ملعون‘‘. هذه الممارسات واضحة جدا في الحروب الحديثة.

نأخذ أيضًا بعين الاعتبار الملابس التي ارتداها البغدادي مقارنة بما يدعيه من الأصولية الإسلامية. يتطلب تناول هذا الأمر فهم عميق لأيديولوجية وعنف داعش. فلا يمكن فهم داعش بأي حال على إنها تجسيد للأصولية الإسلامية. على الرغم من أن هذا ما يؤمن به مؤيدي داعش، إلا أننا لا ينبغي أن نتعامل مع هذه الفكرة بأي قدر من المصداقية.
_______________________________________________________________________________

(1) الويستفاليا: هو مبدأ من مباديء القانون الدولي، يقر أن كل دولة سواء كانت كبيرة أو صغيرة لها السيادة المطلقة على أراضيها وعلى شئونها الداخلية، ويحق لها استبعاد كل القوى الخارجية في إطار ممارسة سلطانها الداخلي.
_______________________________________________________________________________

هذا المقال نشرته الجارديان للكاتب كيفين ماكدونالد تحت عنوان
Isis jihadis aren’t medieval – they are shaped by modern western philosophy
_______________________________________________________________________________
ونُشرت الترجمة العربية على موقع إضاءات مصر العربية بعنوان داعش والثورة الفرنسية:هل تنتمي داعش إلى الإسلام أم إلى الحداثة؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الكون مكتوب بلغة الرياضيات؟

لطالما استخدم العلماء الرياضيات في التعبير عن الخصائص الفيزيائية للكون.. لكن ماذا لو أن الكون بأسره بناء رياضي! هذا ما يؤمن به عالم الكونيات ماكس تيجمارك. يرى تجمارك أن كل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي ( mathematical structure )، قد يرى المرء أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن للجزيئات خصائص مثل الشحنة الكهربائية والحركة، لكن تجمارك يجادل بأن هذه الخصائص هي محض رياضيات. كذلك الكون، أحد خصائصه الأبعاد، إلا إنه محض بناء رياضي. ’’لو بدأت في النظر للكون بكل ما يحتويه على إنه محض بناء رياضي، وأن لا خصائص له سوى الخصائص الرياضية. ستبدو فكرة أن كل شيء "رياضي" أقل جنونًا‘‘ .. يقول تجمارك في لقاء له اعتمادًا على كتابه "عالمنا الرياضي: سعيي لفهم طبيعة الواقع" ( Our Mathematical Universe:   My Quest For The Ultimate Nature Of Reality ) يقول تجمارك ’’لو أن أفكاري خاطئة، فإن الفيزياء ستُسحق كليًا.‘‘ مضيفًا ’’لكن لو أن الكون كله محض رياضيات، لن يكون هناك شيء عصيّ على الفهم.‘‘ Photo Credit الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات.. يقوم هذا الاستنتا

جون بيري: العدميّة وأزمة المعنى

لفظ عدمية ’ Nihilism ‘ مشتق أساسًا من الكلمة اللاتينية ’ Nihil ‘ والتي تعني لاشيء. يستخدم اللفظ في عدة مواضع في الفلسفة. بمعنى: لا يوجد شيء على الإطلاق.. أو لا يوجد مباديء أخلاقية على الإطلاق.. وكل ما يُساق من لفظ ’’اللاشيء‘‘ فهو عدمي. إلا أن الاستخدام الأكثر شيوعًا، والمستخدم على نطاق واسع اليوم، هو أن لا شيء نستخدمه، نبدعه أو نحبه له أي معنى أو قيمة على الإطلاق. العدمية بشكل عام ليست مجرد تعريف لموقف فلسفي معين، بل تعبير عن ميل عام، وعن حالة من الأسى: هل هذا كل شيء؟ هل الإنسانية ليست سوى عدد من السنين لا قيمة لها على كوكب لا يميزه أي شيء عن غيره في كون لا يُلقي لنا بالًا؟ هل لأي شيء قيمة؟ بالنسبة للعديد من الناس هذه الأسئلة ليست مجرد طرح فلسفي بل وجهة نظر حداثية للإنسانية كجزء ضئيل للغاية من الكون ككل.. كما يدعي العلم. في البداية ظهرت العدمية في المعاجم الفلسفية باعتبارها ’’اتهام‘‘. لم تبدأ كغيرها من المناهج الفلسفية بأن يقول أحد الفلاسفة ’’أنا عدمي‘‘ بل ’’أنت عدمي‘‘ كاتهام. وشعر البعض أنه لو صح ما قاله البعض الآخر من الفلاسفة حول العدمية.. فسيكون كل شيء بلا معنى. في

العدمية الأخلاقية

العدمية الأخلاقية هي اتجاه فلسفي متجاوز للأخلاق باعتبار أن كل الادعاءات الأخلاقية ليست صحيحة بشكل عام. تذهب العدمية الأخلاقية إلى أنه ليس هناك حقائق أخلاقية موضوعية أو افتراضات صحيحة – لا يمكن تصنيف شيء ’’أخلاقيا‘‘ على إنه جيد أو سيء، صح أو خطأ، ... إلخ – لأنه ببساطة لا يوجد حقائق أخلاقية (مثال على العدمية الأخلاقية, أن نقول أن القتل ليس خطأ، لكنه ليس صحيح أيضًا). تختلف العدمية الأخلاقية عن القناعات الأخلاقية الذاتية، والقناعات الأخلاقية النسبية، التي تكون فيها القضايا الأخلاقية صح أو خطأ بشكل غير موضوعي، في الواقع تذهب العدمية الأخلاقية إلى عدم وضع أي حكم أخلاقي ثابت بشأن أي قضية أخلاقية. الانتقادات الموجة للعدمية الأخلاقية تأتي في المقام الأول من المذاهب الأخلاقية الواقعية مثل الأخلاقية ال طبيعية و الأخلاقية غير طبيعية ، واللاتي تجادل بأن هناك حقائق أخلاقية إيجابية. العدمية الأخلاقية بشكل ما تعتبر نتاج النظرة المتجاوزة للعدمية. تُقدم فلسفة نيكولا ميكافيللي أحيانًا على إنها نموذج للعدمية الأخلاقية، لكن يجب وضع هذا الادعاء موضع فحص لأن ميكافيللي نفسه لم يكن