التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل ماتت ما بعد الحداثة وشبعت موت؟

"أين الإله؟ أنا سأقول لكم ذلك! لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن كلنا قَتَلَتُه ! لكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟ من أعطانا الإسفنجة لمحو كل هذا الأفق؟ ماذا فعلنا بفصلنا الأرض عن شمسها؟ إلى أين تقودها حركاتها، حركاتنا؟ أبعيدًا عن كل الشموس؟ ألم نندفع في منحدر لا قرار له؟ (…) أما يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألسنا نتيه صوب عدم لانهائي؟"

بتلك الكلمات أعلن نيتشه "موت الإله" في كتابه "العلم الجذل / الشاذ،" إله الحداثة،
مُمهدًا الطريق لظهور ما بعد الحداثة. هذا هو عالم نيتشه؛ عالم ما بعد الحداثة بلا ثوابت أو مركزية أو حدود، لا شيء يتجاوز المادي المباشر، لا يُمكن لأي منظومة أخلاقيّة أن تحكم، فالإنسان كائن غرائزي مثله مثل بقية الكائنات، وكل الكائنات جزء من الطبيعة المادية التي تخضع كل الكائنات فيها "لإرادة القوة". فإن كان كارل ماركس يرى أن الصراعات الطبقية هي ما تؤطر صيرورة التاريخ؛ وإن كان سيجموند فرويد يرى أن صراع الرغبات في اللاوعي هي المحرك للتاريخ؛ فإن نيتشه قد رأى "إرادة القوة" هي محرك التاريخ. ربُما كان سبب هذه القطيعة الكلية مع كل الثوابت هو أن نيتشه نفسه كان يرى أن الحداثة بمفهومها الغربي ما هي إلا ميتافزيقيا مُقنعة، وهم، يُأله فيه الإنسان بدلًا من الإله، وتصبح فيها الحضارة الغربية هي المطلق. ربما أيضًا كان هذا أكثر ما يُميز ما بعد الحداثة أنها نشأت بوصفها معاديًا للحداثة.. ففيما اهتمت الحداثة بتقديم السرديات الكبرى على أسس تنويريّة وعقلانيّة، شككت ما بعد الحداثة في كل السرديات الكُبرى واعتبرت أن كل ما تقف عليه البشريّة مِن معارف كليّة ليس سوى أطروحات متأثرة بالسياق التاريخي والمحلي المعاصر لها، فالحقائق مُختلفة باختلاف العصور والمجتمعات أو بالأحرى وكما يقول نيتشه: "لا يوجد حقائق يوجد فقط تأويلات،" فالتمسك بأي نمط أخلاقي أوسردية ميتافزيقية هو محض اختيارات وتفضيلات شخصية. وعليه، يقذف بنا هدم السرديات الكبرى والتخلي عن الأُسسية الأخلاقية والموضوعية إلى بحار النسبية والتعددية والتفكيك والعدمية.

يقول المفكر الألماني راؤول ايشلمان في كتابه "بعد ما بعد الحداثة مقالات في الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن" ترجمة أماني أبو رحمة:  "تعرض ما بعد الحداثة فخاً محكماً استثنائياً لا مفر منه في ما يتعلق بالمعنى. وأي محاولة يبذلها المرء في رحلة البحث عن المعنى تذهب أدراج الرياح لأن كل علامة تعد بنوع من المعرفة الأصيلة تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر. وفي محاولته تحديد نفسه من خلال المعنى، فإن الشخص في ما بعد الحداثة يغرق في طوفان المرجعيات المتقاطعة التي تتزايد في الاتساع أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فإنه حتى لو تشبث بالشكل فلن تكون النتيجة أفضل بحال من الأحوال، لأن ما بعد الحداثة لا ترى في الشكل ترياقا للمعنى، بل إنه أثر يقودنا إلى الوراء نحو سياقات موجودة بالفعل ومثقلة سيميائياً. كما أن أي محاولة لتثبيت المعنى تتبعثر على أشكال متداخلة وكل توظيف لشكل يرتبط بمعان موجودة بالفعل وكل مقاربة للأصالة تعود بنا إلى علامة مُغايرة. تنتهي رحلة الشخص الباحث عن المعنى من حيث بدأت: فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع إلى ما لا نهاية." انتهى كلامه.

ربما يبرز الفخ الاستثنائي المحكم الذي يتحدث عنه راؤول ايشلمان أكثر ما يبرز في مشروع دريدا التفكيكي الذي اعتمد التشكيك الجذري في دلالات النصوص مقوّضًا تمامًا فكرة استقرار المعنى أو الوقوف على أي علامة كمعرفة أصلية يُمكِن التأسيس عليها. فإذا ألقينا نظرة دقيقة على تفكيكيّة دريدا نرى أنَّ أي بناء أدبيّ، سياسيّ، فلسفيّ، ...إلخ، يُسن ويُحافظ عليه بأفعالٍ إقصائيَّة. بمعنى: أنَّنا أثناء تكوين وخلق بناء ما، نُنحي بشكل إقصائي ما لا يتفق مع هذا البناء
. مِن ثمَّا، تصبح البُنى الجديدة إقصائية قمعيّة، كما أنَّ القمع والزجر يُصبحان أحد النتائج والسمات الأساسيّة المُترتبة عليها. يعود دريدا ليؤكد على أنَّ ما تم طمسِه وقمعِه يعود مرة أخرى لزعزعة وقلقلة البناء، مهما بدى البناء في مَأمن وثبات.  



هذه هي فلسفة ما بعد الحداثة المُخادعة المراوغة حيث يصعب الاستقرار على معنى، وهذا هو عالم ما بعد الحداثة المُتشظي والذي تظهر فيه هشاشتنا أمام نسبية كل شيء في هيئة وعي ساخر بالنفس ومحاكاة ساخرة للعالم والواقع مِن حولنا. عالم يرى فيه جاك دريدا أن الحقيقة شظايا مُبعثرة نازعًا القداسة عن مركزية العقل. عالم يرى فيه ميشيل فوكو أن الفلسفة ما هي إلا محاولة لتشخيص الواقع والتفكير في اللامفكر فيه لاكتشافه بشكل دقيق لفهم التكوين الحقيقي للظواهر بعينها وأسباب سيطرة مواضيع بعينها في فترات تاريخية معينة، لا يعدنا فوكو هنا بأي شيء عن الحقيقة، بل فقط "جينيالوجيا" أو "علم أنساب" الظواهر، محاولة فهم ما يحدث لا الوقوف على حقيقته. عالم يُسقِط فيه جان ليوتار كل السرديات الكبرى التي قامت على أسس العقلانية والتنوير. عالم ما بعد الحداثة الذي ما أنفك أن يؤكد فيه جان بودريار على ’موت الواقع‘ و’اغتيال المعنى‘ و’تفتت المصادر‘ المنتجة له. أليس هذا هو عالم ما بعد الحداثة؟ عالم مُفكك ونسبي ومبعثر لشظايا يصعد فيه اللامعنى وتتفتت قيه السرديات الكبرى.. عالم العدم اللانهائي كما بَشّرَ به نيتشه في العلم الجذل، فبعد موت الإله، وبعد أن نزع الإنسان القداسة عن كل شيء، مات الإنسان نفسه.

لكن هل ما زال هذا العالم قائمًا حقًا؟ أين الآباء المؤسسون لعالم ما بعد الحداثة بنظرياتهم الفكرية والفلسفية؟ هل نشهد تحول لعالم مُغاير قائم على أنماط فكرية مغايرة وقوى جديدة ونماذج ثقافية واجتماعية متابينة ومختلفة أحدثتها فجوة جيلية؟ ما الذي تستطيع أن تقدمه النظريات التي وضعها لاكان، دريدا، فوكو، بارت، دولوز وكل مُنظريّ ما بعد البنيوية لنا الآن؟

حسب ايشلمان، فقد شهد العالم منذ فجر الألفية الثالثة ظهور حالة في العلوم الإنسانيّة تُسمى "ما بعد النظريّة" ماتت فيها ما بعد الحداثة. مِن ثمَّ، يحاول ايشلمان صياغة مصطلح يناسب المرحلة الجديدة والتي هي: "بعد ما بعد الحداثة." فكل نظريات ما بعد البنيوية التي ظهرت في مرحلة ما بعد الاستعمار لم تستطع مواكبة "الحداثة المُتغيرة" والتي يجري الإشارة لها بلفظ "العولمة" في الكثير مِن الأحيان. يمحص ايشلمان هذا الخلط بين المفاهيم في كتابه "نهاية ما بعد الحداثة؛" موضحا جملة من التغيّرات التي طرأت على الأدب والسينما والعمارة والسياسة والفن؛ مُبينًا مما لا يدع مجالًا للشك أننا غادرنا حقبة ما بعد الحداثة! يُطلق ايشلمان على هذا العصر الجديد عصر "الأدائية Performatism،" حيث تأخذ نماذج وأنماط الفلسفة، الفنّ، السينما، الأدب والسياسة منحنى سامي متعالي يتجاوز الواقع المادي ويعود بالفلسفة نحو الواحدية والأسسية بعيدًا عن التضخم والتشظي الكامن في نموذج ما بعد الحداثة.

ايشلمان ليس الوحيد الذي تناول "بعد ما بعد الحداثة،" يقول
آلان كيربي، أستاذ الأدب في جامعة إكسترا، في مقاله الشهير "ما بعد موت ما بعد الحداثة" أن: "ما بعد الحداثة ماتت وتم دفنها، وأتى في مكانها نموذج جديد للسلطة وللمعرفة تشكل تحت ضغط تكنولوجيا جديدة وقوى اجتماعية معاصرة." يتحدث كيربي في مقاله عن نهاية ما بعد الحداثة وظهور تطبيقات أدبية وفنية وسياسية تأسست في واقع مغاير وعلى نماذج فكرية مختلفة. يطلب كيربي من القراء أن يلقوا نظرة على سوق المنتجات الثقافية مثلا، سواء كتب أو محاضرات أو ندوات، أين الإنتاج الثقافي ما بعد الحداثي؟ هل لازالت أيَّ مِن نظرية دريدا، فوكو أو جان بودريار تشغل الساحة الفكرية الآن! تقاعدت هذه النظريات وأصبحت لا تشغل الحوار إلا بين الأكاديمين. كذلك تخلى منتجي المواد الثقافية المقروءة، المرئية والمسموعة عن إنتاج مواد تتعلق فعلا بما بعد الحداثة. ما يؤسس له كيربي هنا هو أن: "الشعور بلا جدوى النظريات في وقتنا المعاصر أدى إلى موتها."

لذلك، يبرز الانتقال من "ما بعد الحداثة" إلى "بعد ما بعد الحداثة" بشكل لا يُمكن إغفاله في مجال الأدب أكثر من أي مجال آخر ذلك بسبب تغير أساليب الكتابة ومباحث وحبكات الروايات نفسها. على سبيل المثال عند تناول رواية ما بعد حداثية مثل "في انتظار جودو" للكاتب الآيرلندي صمويل بيكت، أبرز رواد مسرح العدميّة والعبث، والتي تعتبر واحدة من أهم الأعمال الأدبيّة في القرن العشرين، لا نجد أن النص، وكذلك النصوص المعاصرة له،
يستعرض شيء عن موسيقى الروك أو برامج تلفزيون الواقع، عن التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام، عن الهواتف النقالة والبريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، عن الحاسبات الآلية التي وصلت كل بيت، عن الوصول للقمر الذي بات اليوم أمرا مفروغ منه. لقد أصبحت تلك النماذج من الروايات مثل في انتظار جودو أو 1984 لأرويل، قديمة جدًا بل وظهرت في واقع مغاير وسط نمط ثقافي مختلف تمامًا. لقد ظهرت هذه النماذج الأدبية قبل أن نأتي نحن أو حتى آبائنا للوجود. بلا شك لازال هناك إنتاج لبعض النصوص التي تبحث إشكاليات الحداثة وما بعدها، إلا أن جملة الكتابات المتراكمة من بعد الألفية الجديدة تحيد بشكل ملحوظ للغاية عن قواعد ما بعد الحداثة بحيث أنها تدفع القاري لاتخاذ مواقف متعالية على الواقع المادي، مُساهِمة في انتشار موجه من المد الصوفي والنزعة البوذية حيث يعتقد القاريء أن عليه الوصول لدرجة من البطولة والتعالي والتجاوز يهزم بها الواقع المادي المُكبِل لروحه. تقدم هذه الإستراتيجية السردية التعالي أو تجاوز الواقع المادي على أنه السبيل للوصول للحقيقة، على عكس التشظي الذي يسود عالم ما بعد الحداثة والذي اتفق فيه الجميع على أن لا حقيقة أساسًا بل محض تأويلات متأثرة بالسياق التاريخي والمحلي المصاحب لها.

حسب آلان كيربي، وكما أورد في مقاله، أنَّ "بعد ما بعد الحداثة"
على عكس "ما بعد الحداثة" تُضفي على المُتلقي وليس الكاتب أهمية وكأنه شارك في كتابه أو هو من كتب العمل برمته. قد يرى المتفائلون أن هذه هي "دمقرطة الثقافة"، لكنّ المتشائمين يرون هذا دليلا على أنّ المنتجات الثقافية المعاصرة تافهة وضحلة! لكن لماذا؟ حسب كيربي، فقد استطاعت التكنولوجيا الحديثة في أواخر التسعينات وأوائل الألفية الجديدة أعادت هيكلة طبيعة الكاتب والقاريء والنص والعلاقة بينهم بعنف وإلى الأبد. بمعنى: أن الأعمال الفنية والأدبية فيما بعد الألفية الثانية لا تترك للمُتلقي بديلا ولا خيارا سوى التغاطي عن حالة التفكك والعدمية التي صاحبت ما بعد الحداثة، فيتجاوزها ولو شكليا عن التفكك، ومكافئة هذا التغاضي والتغافل هو "الجماليات / البهجة / الفرحة" التي نعيشها، لكن يُنغص هذه الجماليات إدراكنا، الذي نتغافل عنه لفترة لكنه يعود للحضور، بأن هذه البهجة محدودة ومصطنعة.

بالعودة لكيربي، فقد كانت ثقافة الفرد فيما بعد الحداثة مرتبطة بعجزه حيث يطرح أسئلة عن إشكاليات وجودية وحقائق وعلامات أصولية يستطيع تأسيس المعنى عليها. من ثمَّ، فقد ارتبط الفرد ارتباطا وثيقا بروافد المعرفة بما فيها السينما والتلفزيون. إلا أن هذه الحالة لم تعد قائمة، فقد ظهر نوع من "الحداثة الزائفة / الواقعية الحرجة / الأدائية (كما يسميها ايشلمان)،" حيث أصبح اتصال المشاهد ومشاركة الفرد المستهدف جزء من الإنتاج المعرفي. يظهر ذلك في العديد من برامج تلفزيون الواقع، حيث تحرك مشاركات المشاهد مسار البرنامج وتحدد المحتوى الذي يجب تقدميه وتؤطر المساحة التي يجب أن تحتلها المواضيع المطروحة للنقاش – ومع ذلك، فإن كل هذه الاتصالات والنقاشات والبرامج بمحتواها بالمشاركين فيها ليسوا بمنأى عن "الأخ الأكبر،" الذي يراقب كل شيء ويسمح بما يريد ويستقصي ما لا يريده فعلا.. لذلك أطلق كيربي عليها "حداثة زائفة،"
فمؤسسات الدولة لا تستهدف من الاتصالات مَن قد يغير رأيهم من حقيقة الأمر شيء فعلا.

الأمر الآخر، أن تلفزيون الواقع ليس وحده أحد السمات البارزة في عالم "بعد ما بعد الحداثة،" هناك أيضًا الإنترنت؛ وهو المجال الذي يتجلى فيه التباين الشديد بين الحقل المعرفي لعالم ما بعد الحداثة والحقل المعرفي لبعد ما بعد الحداثة. بمعنى، أن إنسان ما بعد الحداثة الذي غلب عليه العجز المعرفي والتفكك واستحالة الوقوف على علامة ومعنى؛ أصبح في عالم الحداثة الزائفة يخلق سردياته بنفسه مُنخرطا فيما يبدو أنها "مناقشات، عمليات وأطروحات ثقافية" – فيتولد لديه إحساس مؤقت وزائف بأنه صاحب بيئته الثقافية الخاصة التي يديرها كما يريد – فيتولد لديه إحساس زائف
بالجماليات / بالبهجة / بالعمق. فصفحات الإنترنت كروافد معرفيّة ليست مؤلفه كروايات القرن العشرين؛ بمعنى أنه بمجرد انتهاء روائي مثل بيكت من كتابة "في انتظار جودو" ووصول الرواية ليد العوام – لم يعد بمقدور بيكت تعديل النص أو حذفه، على عكس صفحات المدونتات التي يديرها العوام يعدلون ويحذفون؛ فأي شخص يستطيع خلق محتوى ثقافي على الإنترنت. هنا يمُيّز كيربي بين العالمين قائلًا: "في ما بعد الحداثة، الشخص يقرأ، يستمع، يشاهد كالمعتاد. لكن في الحداثة الزائفة الشخص يتصل، ينقر، يطبع، يتصفح، يختار، يُحمِل." هنا تكمن الفجوة الجيلية." لقد انقضت نخوية ما بعد الحداثة التي كانت فيها الثقافة والمعرفة حكرًا على الكُتّاب، الفنانين، الأكاديمين والفلاسفة. والآن، يستطيع أي شخص خلق بيئته الثقافية التي قد تتسم بالعنف، الإباحية، التطرف، الابتذال أو حتى الهيافة والضحالة. مِن هُنا جاء اسم "الحداثة الزائفة" كما يعتبرها كيربي؛ بسبب التباين والاختلاف الساخر بين مدى تقدم تلك الوسائل وما تقدمه من بيئات ومحتوايات ثقافية شديدة الضحالة أحيانا.

"أعتقد أن ما يحدث أكثر من مجرد تغيير في النمط الثقافي. مفهومنا للسلطة، للمعرفة، للأنا، للواقع وللزمن قد تغير فجأة وإلى الأبد.." ــــــــــــ آلان كيربي

أن التغيير الذي يرمي إليه كيربي هنا أدى إلى ولادة مفاهيم وتصورات جديدة للأنا وكل ما يحيط بها. مفاهيم جديدة تُعيد تعريف العلاقة بين القاريء والنص؛ ففي حين أن ما بعد الحداثة كانت تطرح إشكاليات كالواقع والحقيقة كأسئلة استفهاميّة وإشكاليات وجوديّة. تتناول الحداثة الزائفة الحقيقة على إنها "أنا،" أنا المتعالي المتجاوز للواقع المادي، "أنا" الخالق للحدث بالتفاعل الحي مع الأحداث وتصويرها بالكاميرات ونشرها في مقاطع على الإنترنت، "أنا" من يصور جرائم التعذيب في السجون وينشرها على الإنترنت، أنا مَن يخلق الحقيقة، نتيجة لذلك، يحل الجهل والتعصب الناجم عن تضخم الأنا محل الروح الساخرة الناتجة عن القلق الوجودي والعدمية المصاحبة لما بعد الحداثة. كما تحل تلك "الأنا" الواحدية المهيمنة بقوة في الثقافة الجديدة محل التشظي والتفكك اللانهائي في ما بعد الحداثة.

هذا العصر يسميه آلان كيربي "الحداثة الزائفة،" ويسميه راؤول ايشلمان "الأدائية،" ويشترك التعريفان في حقل دلالي يظهر فيه الإنسان ككائن متعالي يسعى نحو الواحدية مُنتقلًا من الأجزاء المُتشظية المُتفككة لما بعد الحداثة. هذا هو عالم التعالي الذي ظهرت فيه قوى مُفرطة في التعصب الديني كإسرائيل وداعش معتبرين أنفسهم تجلي للحقيقة المُطلقة وما دونهم باطل.  هذا هو عالم "التعالي والتجاوز المخيف" الذي يجعل الفرد ينغمس في أناه وفي حالته العاطفية
فيغرق في حالة من التوحد والصمت والضياع بدلًا من الوعي الساخر بالذات الذي ميز ما بعد الحداثة. نتيجة لذلك، تُغرقنا عشرات الإعلانات في التلفزيون وعشرات آلاف المنشورات على الإنترنت بروح النوستولجيا، نوستولجيا تتجاوز الرغبة في العودة إلى الطفولة، فتذهب لما هو أبعد مِن مراحل طفولتنا..  فتجد شباب في العشرين لديهم حنين لعصر الملك فاروق! الأبعد مِن ذلك تكتسح الإنترنت موجات نوستولجيا إلى الأندلس! نحن نتحدث عن استعادة الأندلس وتفصلنا عن فلسطين المُحتلة بعض الكيلو مترات!

هذا هو عالم "بعد ما بعد الحداثة،" انقر الفارة، اضغط على لوحة المفاتيح، عش وهم أنك تُشارك، عش وهم أنك صانع الحقيقة، أنت الحقيقة، لا يوجد حقائق أخرى، أنت المحتوى، وأنت المتجاوز، لا يوجد غيرك، أنت الآن حر اخلق ما تشاء واعدم ما تشاء، مات المؤلف، أنت الآن المؤلف ولا مؤلف غيرك.. أنت السرديّة الكبرى.

___________________________________________________________________________________________________


هذه التدوينة شخصيّة وليست مُترجمة، نُشر المقال على موقع مصر العربيّة وإضاءات بعنوان: "الإنسان والتكنولوجيا: هل ماتت ما بعد الحداثة؟"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الكون مكتوب بلغة الرياضيات؟

لطالما استخدم العلماء الرياضيات في التعبير عن الخصائص الفيزيائية للكون.. لكن ماذا لو أن الكون بأسره بناء رياضي! هذا ما يؤمن به عالم الكونيات ماكس تيجمارك. يرى تجمارك أن كل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي ( mathematical structure )، قد يرى المرء أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن للجزيئات خصائص مثل الشحنة الكهربائية والحركة، لكن تجمارك يجادل بأن هذه الخصائص هي محض رياضيات. كذلك الكون، أحد خصائصه الأبعاد، إلا إنه محض بناء رياضي. ’’لو بدأت في النظر للكون بكل ما يحتويه على إنه محض بناء رياضي، وأن لا خصائص له سوى الخصائص الرياضية. ستبدو فكرة أن كل شيء "رياضي" أقل جنونًا‘‘ .. يقول تجمارك في لقاء له اعتمادًا على كتابه "عالمنا الرياضي: سعيي لفهم طبيعة الواقع" ( Our Mathematical Universe:   My Quest For The Ultimate Nature Of Reality ) يقول تجمارك ’’لو أن أفكاري خاطئة، فإن الفيزياء ستُسحق كليًا.‘‘ مضيفًا ’’لكن لو أن الكون كله محض رياضيات، لن يكون هناك شيء عصيّ على الفهم.‘‘ Photo Credit الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات.. يقوم هذا الاستنتا

جون بيري: العدميّة وأزمة المعنى

لفظ عدمية ’ Nihilism ‘ مشتق أساسًا من الكلمة اللاتينية ’ Nihil ‘ والتي تعني لاشيء. يستخدم اللفظ في عدة مواضع في الفلسفة. بمعنى: لا يوجد شيء على الإطلاق.. أو لا يوجد مباديء أخلاقية على الإطلاق.. وكل ما يُساق من لفظ ’’اللاشيء‘‘ فهو عدمي. إلا أن الاستخدام الأكثر شيوعًا، والمستخدم على نطاق واسع اليوم، هو أن لا شيء نستخدمه، نبدعه أو نحبه له أي معنى أو قيمة على الإطلاق. العدمية بشكل عام ليست مجرد تعريف لموقف فلسفي معين، بل تعبير عن ميل عام، وعن حالة من الأسى: هل هذا كل شيء؟ هل الإنسانية ليست سوى عدد من السنين لا قيمة لها على كوكب لا يميزه أي شيء عن غيره في كون لا يُلقي لنا بالًا؟ هل لأي شيء قيمة؟ بالنسبة للعديد من الناس هذه الأسئلة ليست مجرد طرح فلسفي بل وجهة نظر حداثية للإنسانية كجزء ضئيل للغاية من الكون ككل.. كما يدعي العلم. في البداية ظهرت العدمية في المعاجم الفلسفية باعتبارها ’’اتهام‘‘. لم تبدأ كغيرها من المناهج الفلسفية بأن يقول أحد الفلاسفة ’’أنا عدمي‘‘ بل ’’أنت عدمي‘‘ كاتهام. وشعر البعض أنه لو صح ما قاله البعض الآخر من الفلاسفة حول العدمية.. فسيكون كل شيء بلا معنى. في

العدمية الأخلاقية

العدمية الأخلاقية هي اتجاه فلسفي متجاوز للأخلاق باعتبار أن كل الادعاءات الأخلاقية ليست صحيحة بشكل عام. تذهب العدمية الأخلاقية إلى أنه ليس هناك حقائق أخلاقية موضوعية أو افتراضات صحيحة – لا يمكن تصنيف شيء ’’أخلاقيا‘‘ على إنه جيد أو سيء، صح أو خطأ، ... إلخ – لأنه ببساطة لا يوجد حقائق أخلاقية (مثال على العدمية الأخلاقية, أن نقول أن القتل ليس خطأ، لكنه ليس صحيح أيضًا). تختلف العدمية الأخلاقية عن القناعات الأخلاقية الذاتية، والقناعات الأخلاقية النسبية، التي تكون فيها القضايا الأخلاقية صح أو خطأ بشكل غير موضوعي، في الواقع تذهب العدمية الأخلاقية إلى عدم وضع أي حكم أخلاقي ثابت بشأن أي قضية أخلاقية. الانتقادات الموجة للعدمية الأخلاقية تأتي في المقام الأول من المذاهب الأخلاقية الواقعية مثل الأخلاقية ال طبيعية و الأخلاقية غير طبيعية ، واللاتي تجادل بأن هناك حقائق أخلاقية إيجابية. العدمية الأخلاقية بشكل ما تعتبر نتاج النظرة المتجاوزة للعدمية. تُقدم فلسفة نيكولا ميكافيللي أحيانًا على إنها نموذج للعدمية الأخلاقية، لكن يجب وضع هذا الادعاء موضع فحص لأن ميكافيللي نفسه لم يكن